١٨ سبتمبر ٢٠٠٥

 

عن المناخ الفكري الذي نعيشه الآن (1)


1 - "اللجنة" الأمريكية الإسرائيلية وتوابعها عندنا

الظاهر – والله أعلم – إن المطلوب دلوقتي من أي واحد يخطر له أن ينتقد مواقف إسرائيل أو أمريكا أنه يخرس تماما ويحط لسانه في بقه و"ياكل بعضه". اللي قروا رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم طبعا فاكرين إن "اللجنة" [وهو يرمز بيها، في رأيي، للمؤسسة السياسية والأدبية الحاكمة] حكمت على بطل الرواية بإنه "ياكل بعضه". ويبدو أن هذا هو المطلوب الآن من أي واحد يعترض، أو أي واحد تراوده الرغبة في أن يعترض، على سياسات أمريكا وإسرائيل.

حكاية استخدام الاتهام بـ "العداء للسامية" في أمريكا وأوروبا، كسلاح لقمع معارضي السياسات الإسرائيلية والدعم الأمريكي لها، حكاية ربما كانت معروفة لحد كبير. وآخر ضحاياها ثلاثة من كبار المفكرين الفرنسيين؛ «إدجار موران» (الفيلسوف اليهودي الفرنسي الشهير) و«سامي ناير» و«دانيال سالناف»، حيث أدانتهم محكمة فرنسية مؤخرا بتهمة العداء للسامية لمجرد أنهم نشروا مقالا في صحيفة "لوموند" ينتقدون فيه سياسات إسرائيل القمعية ضد الفلسطينيين، وهذا السلاح القمعي – أي الاتهام بمعادة السامية – لا يقتصر تأثيره على الغرب وحده، وإنما يمتد ليؤثر على الفكر في بلادنا تأثيرا خطيرا كما سنرى فيما بعد.


2- نظرية "من كان منكم بلا خطيئة فليرم أمريكا بحجر"

لكن الشيء الجديد الآن هو ظاهرة أخذت تشق طريقها في داخلنا - إحنا المصريين والعرب – وبدأت تتضح معالمها في بعض الفضائيات العربية وفي كتابات وتعليقات بعض المدونين. بمجرد ما حد يفتح بقه وينتقد ما تفعله أمريكا في منطقتنا – واللي هو موضع انتقاد من ملايين الناس على امتداد العالم – بمجرد ما حد يقول إن أمريكا هي المسئولة عن اندلاع طوفان الإرهاب في العالم، وإن حربها على الإرهاب هي الإرهاب الأكبر – وهو ما يقوله أيضا مئات من المفكرين ورجال الصحافة أصحاب الضمائر الحية في العالم كله – بمجرد ما حد يقول أي شيء من هذا القبيل .. يلاقي "جوقة" انفتحت في وشه: قبل ما تنتقد أمريكا انتقد نفسك! بطلوا تعلقوا أخطاءكم على شماعة أمريكا! .. بطلوا شعارات! .. دي نظرية المؤامرة! .. دي تغذية لمشاعر الشوڤينية والكسل الأخلاقي! بل ويصل التجاسر بأحدهم إلى القول – في إحدى الفضائيات العربية – بأن من يهاجمون السياسات الأمريكية في العراق هم "تجار مخدرات سياسية".

الأخت سامية تكتب في مدونتها كلمتين عن هيروشيما، فيسارع أحدهم بتذكيرها بأن الطليان والأتراك والعراقيين والمصريين والعمانيين و.. و.. و..إلخ ارتكبوا هم أيضا جرائم. كأنه يقول لها: ماتنسيش جرائم الجنس البشري كله! هكذا ببساطة ودون تمييز وفي غيبة أي مقياس موضوعي للمقارنة. والنتيجة المنطقية إن كل شعوب العالم تطلع مدانة ومافيش حد أحسن من حد. وده – وياللعجب – بمناسبة الكلام عن هيروشيما!!!


3- مدرسة "يا بخت من سامح"

الأغرب من كده إنك تلاقي ناس تانيين يقولولك "اديني أكتر": سيبك من المنطق العادي المبتذل وارتفع فوق الواقع. هؤلاء يتهمونك إذا انتقدت أمريكا بأنك من "دعاة الحقد" ويدعونك إلى التسامي والغفران والسماح. بل تصل بهم رقة القلب ونبل المشاعر إلى حد التحسر لعدم ظهور شخصية مثل شخصية "غاندي" في عالمنا العربي الموبوء بالحقد، واللي الأمهات فيه بيرضعوا أطفالهم الكراهية وبيفطموهم على الإرهاب. هكذا، ببساطة يصبح "غاندي العربي" هو الحلم والأمل.. ودون أي معرفة بتاريخ الهند، ولا بشعوبها وطوائفها الاجتماعية المغلقة، ولا بدياناتها وقومياتها ولغاتها العديدة، ولا بالصراعات والمذابح اللي كانت تندلع بينها، ولا حتى بشخصية غاندي – المولودة من رحم هذا المجتمع الهندي بظروفه الخاصة – وبدون أي إشارة إلى الكفاح الذي خاضه الشعب الهندي، بالسلاح في مراحل عديدة، من أجل استقلاله، وبدون ما يقولوا لنا كلمة واحدة عن مدى النجاح الذي حققته دعوة غاندي أو عن أحلامه اليوتوبية التي لم تتحقق.

غاندي دعا، مثلاً، إلى مواجهة هتلر وصد الزحف النازي بوسائل "غير عنيفة". هل كان لهذه الدعوة أي صدى؟ وهل كان هذا ممكناً أصلاً؟؟ غاندي دعا الهنود إلى الاعتماد على النفس وتحقيق الاكتفاء الذاتي. إلى أي مدى نجحت الهند - وهي البلد الكبير الشاسع - في تحقيق ذلك؟ وما موقف هؤلاء المبشرين بغاندي عربي جديد من الدعوة إلى الاعتماد على الذات؟ ألن يقولوا لنا إننا نعيش الآن في عصر "العولمة" و"القرية العالمية" وتحت مظلة منظمة التجارة العالمية؟ ألا يُتهم الآن الداعون إلى الاعتماد على النفس بأنهم "انغلاقيون" و"شوڤينيون" ودعاة "عزلة حضارية"؟ ثم ألا ترون يا سادة ما يحدث في الهند - بلد غاندي - الآن؟ الهند تُنتج قنابل نووية وتُصنِّع صواريخ بعيدة المدى قادرة على حملها، وتعقد اتفاقا - بمليارات الدولارات - مع إسرائيل لإعادة تدريب الجيش الهندي وتجهيزه. هل نقول "لا كرامة لنبي في وطنه"؟ أم نقول إن كرامات غاندي المنتظر مكتوب لها أن تظهر وتحل بركاتها عندنا نحن دون سائر البشر؟!

الظاهر – والله أعلم - أن هؤلاء "الغفرانيين الجدد" يستغلون أيضا عدم معرفة غالبية قراء مدوناتهم بهذه الأمور كلها. مين لسه فاكر غاندي حتى من اللي شافوا الفيلم في السينما أوالتليفزيون؟ وحتى لو كان بعضهم يعرفه "طشاش" أو يعرف شوية حاجات عنه، يبقى برضه "العيار اللي ما يصبش يدوش". المهم إن يصبح الأمل والملاذ هو "غاندينا" الجديد الذي يواجه طائرات إف – 16 وصواريخ كروز واليورانيوم المنضب بالدعوة إلى التسامح والغفران. وبكده تكون أمريكا وإسرائيل صادوا عصفورين بحجر واحد. كسبوا معركتهم العسكرية، وانتصروا كمان في معركتهم "لكسب القلوب والعقول" (عشم إبليس في الجنة).. وبكده نبقى إحنا حلوين ومؤدبين ومش دعاة كراهية وشوڤينية ومش كسالى أخلاقيا.

هل أقول لهؤلاء إننا لا ينقصنا دعاة "نبذ العنف" الذين يبدو غاندي بالمقارنة بهم "صقرا متشددا". ألم نقل إن "أكتوبر هي آخر الحروب"، ألم تقرر الجامعة العربية وبالإجماع أن "السلام هو خيارنا الاستراتيجي"، ألا تدين السلطة الفلسطينية كل يوم "العمليات الاستشهادية"، ألم يقرر الرئيس أبو مازن "وقف عسكرة الانتفاضة"، ألم تطرح القمة العربية "مشروع الأمير (الملك الآن) عبد الله للسلام"؟؟

ماذا كانت النتيجة؟ مزيد من القمع والتدمير والقتل والتوسع السرطاني في بناء المستوطنات بدعم أمريكي. التوسع الأكبر في بناء المستوطنات في الضفة الغربية جاء بعد عقد اتفاق السلام مع مصر ثم بعد عقد اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين.

ماذا كانت النتيجة؟ أعلن الرئيس كلينتون أن الضفة الغربية وقطاع غزة "أراض متنازع عليها"، أي ليست أراض محتلة بالمعنى المفهوم في القانوني الدولي، ثم جاء الرئيس بوش الابن ليعلن استحالة العودة إلى حدود الرابع من يونيو 1967، وها هو شارون يعلن ألا تفاوض على القدس الشرقية أو على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.

ماذا كانت النتيجة؟ بناء الجدار العازل الذي يُجهض سلفا أي محاولة لقيام دولة فلسطينية حقيقية.

إن اللاءات تأتي منهم، ولا تأتي منا.

فماذا بقي أمام غاندي المنتظر ليفعله مما لم يفعله قادتنا؟

هل يذهب إلى الإسرائيليين والأمريكان زاحفاً على أطرافه الأربع ليقول لهم: "لقد أخطأنا في حقكم يا أصفياء الله ويا ملح الأرض .. هذه أرضكم وليست أرضنا .. فخذوها واغفروا لنا ما صنع السُفهاء منا"!

هل أقول لهؤلاء المبشرين بغاندي المنتظر إن التاريخ لا يعيد نفسه حتى في حياة الشعب الواحد. فإذا أعاد نفسه فإنه يكون في المرة الأولى مأساة (تراجيديا عظيمة) وفي الثانية مهزلة (كوميديا رخيصة) على حد تعبير ماركس. محاولة إعادة إنتاج غاندي الآن – وفي ظروفنا – لن تعطينا غاندي جديداً، وإنما ستعطينا "أراجوز" ونحن لا تنقصنا الأراجوزات والحمد لله.

هل يمكن أن يعيش الدب القطبي في خط الاستواء؟ هل يمكن زراعة النباتات الاستوائية في القطب الشمالي؟

أعرف أنهم يريدون "تعدي الطبيعي" وتجاوز المنطق العادي للبشر، (يجب ألا ننسى أن "علم اللوع أكبر كتاب في الأرض" كما يقول صلاح جاهين). وسيقولون لي: ممكن بالهندسة الوراثية!

المطلوب إذن هو هندستنا وراثيا.

المطلوب هو تحويلنا إلى حيوانات غبية ومؤدبة تتمسح في أقدام السادة أو يُعلمها السادة كيف تؤدي "نوم العازب" و"عجين الفلاحة".


والحديث متصــــل ..

١٥ سبتمبر ٢٠٠٥

 

أرجو أن أكون عند حُسن الظن


أشعر هذه المرة أن مهمتي ليست سهلة.

مطلوب مني أن أرد على محاور يقول:
"عايز تبقى الإدانة للفعل بغض النظر عن مرتكبه، مش مجرد تغذية لمشاعر الشوفينية والكسل الأخلاقي أو إننا نقعد مرتاحين نمدح أنفسنا وماضينا وتاريخنا ونشيطن اللي مختلفين معاه: هو الشيطان الأكبر نبقى أحنا الملايكة".
ومحاور آخر يشير إلى ما جاء في كلامي حين قلت: "إحنا عمرنا ما قلنا، على الأقل في التاريخ الحديث، إننا العنصر المتفوق. عمرنا ما قلنا "العرب فوق الجميع" ، ولا إننا "شعب الله المختار".

ثم يضيف معلّقًا على كلامي:
"لو كنت تقصد بـ "إحنا" العرب والمسلين في مجمل تاريخهم، فأنا أسجل اعتراضي الشديد على الكلام ده".
ثم يعود المحاور نفسه ليقول في مداخلة أخرى:
"تاريخنا كعرب ومسلمين مليان بالدماء (أو على الأقل أنا مؤمن بكده) زي كل الأمبراطوريات الكبيرة، من أول عهود دخول المسلمين الأوائل للبلاد فيما نسميه فتح ويسميه الأخرون غزوا".
وقد أغرتني هذه الأفكار التي طرحها المحاور الثاني بأن أسعى لأعرف المزيد عن رؤيته وتصوراته، فوجدته يقول في مدونة له:
"العالم الثالث تتقدمه مصر مقبل على كوارث سوداء والأمل الوحيد هو نظرة عطف إنساني من العالم الأول".
محاور ثالث يقول:
"استمرارنا في النظر للصراع مع الغرب (ومع الأقليات أو الأكثريات بين ظهرانينا) بصفتنا عربا ومسلمين لم ولن يؤدي بنا سنتيمترا واحدا للأمام. لابد من نظرة عالمية جديدة ومن الإيمان بمنطق الاستضعاف الذي دفع محمد علي للرضوخ إلى مطالب عصابة من 4 أو 5 دول.. وكان يمكن في هذه الحالة أن نفوق اليابان اليوم".
هناك، دون شك، قدر من التباين والاختلاف بين رؤى المحاورين الثلاثة.

ومع ذلك، يظل هناك أيضا، في اعتقادي، خيط مشترك واضح يسري في أفكارهم جميعا.

ما هذا الخيط المشترك؟

هذا الخيط المشترك هو غياب الحس التاريخي.

المحاور الأول يقول "عايز تبقى الإدانة للفعل بغض النظر عن مرتكبه". وواضح أنه يريد أن يُجرد الفعل تماما من أي سياق زمني أو مكاني، لا يُهمه أن يكون الفعل قد اُرتكب من عشرة قرون أو قرنين أو اُرتكب في الوقت الحاضر، كما يريد أن يجرده من القيم والأعراف والتقاليد السائدة وقت ارتكابه، بل وأكثر من ذلك يريد أن يُجرد الفعل من ملابساته ودوافعه. هل الذي قَتَل، مثلا، قَتَل مع سبق الإصرار والترصد؟ هل هو شجار أفضى إلى قَتْل؟ هل كان القتل دفاعا عن النفس؟ هل هناك ظروف تستدعي تخفيف العقوبة؟ وهذا في القانون والقضاء، فما بالك بالتاريخ الأشد تعقيدا والممتد قرونا طويلة؟ لكن محاورنا لا يأبه بالتاريخ ولا بالظروف التي أحاطت بـ"الفعل"، بل يُريد أن يُدينه "بغض النظر عن مُرتكبه".

المحاور الثاني يُلخص تاريخ العرب والمسلمين على مدى أربعة عشر قرنا كاملة في جملة واحدة: "تاريخنا كعرب ومسلمين مليان بالدماء.." هكذا دون أي اعتبار للمراحل الزمنية التي جرت فيها أحداث ذلك التاريخ، دون أي تصور واضح لصورة العالم الذي جرت فيه تلك الأحداث، ودون أي مقارنة – على الأقل – بين ’الإمبراطورية العربية’ والإمبراطوريتين الرومانية والفارسية اللتين سبقتاها في المنطقة، وبإهدار كامل لأي إنجازات أو لأي إسهام حضاري قدمه العرب والمسلمون. "تاريخنا كعرب ومسلمين مليان بالدماء"، وانتهى الأمر وكان الله يحب المحسنين.

المحاور الثالث يقول صراحة: "استمرارنا في النظر للصراع مع الغرب (ومع الأقليات أو الأكثريات بين ظهرانينا) بصفتنا عرب ومسلمين لم ولن يؤدي بنا سنتيمترا واحدا للأمام". طيب. كيف نستمر؟ وبأي صفة؟ هل لنا صفة أخرى غير أننا عرب تؤمن غالبيتنا بالإسلام؟ (يجب أن يكون واضحا منذ البداية أنني حين أتحدث عن العرب لا أفرق بين عربي مسلم وعربي مسيحي وأنني مدرك تماما لقيمة وأهمية إسهام المسيحيين العرب كجزء لا يتجزأ من النسيج العربي). أعود لأسأل: هل المطلوب منا – هنا والآن – أن نقطع جذورنا تماما، أن نلغي التاريخ والجغرافيا؟ أن نبدأ صفحة جديدة تماما، نتبرأ فيها من كل تاريخنا وماضينا؟ هل هذا ممكن؟ هل حدث في أي مكان آخر؟

ماذا يتبقى لنا إذا ما انحلت عُرى النسيج الضامّ الذي يجمعنا، هل نتحول إلى جزر منعزلة وذرات متصادمة هائمة في الهواء؟

أعرف أن معتقدات الشعوب ورؤيتها للعالم تتغير. ولكن هذا التغير - الذي يستغرق بالضرورة مدة زمنية قد تَطُول أو تَقْصُر – يجب أن يبدأ من نقطة معينة، يجب أن يبدأ من بُقعة محدودة في العالم (جغرافيا) ومن تاريخ محدد. لا فكاك من الجغرافيا والتاريخ، ولا وجود لصفحات بيضاء في تاريخ الشعوب.

أعرف أن واقعنا العربي الراهن فيه الكثير مما يدعو إلى الإحباط والغضب. ولكن علينا – إذا كنا جادين في محاولة تغييره إلى الأحسن – أن نبدأ منه كما هو. أن نبدأ من أهلنا وناسنا كما هم. بدون استعلاء عليهم أو هروب إلى مسارات وسراديب وهمية مقطوعة الصلة بالواقع.

هل نريد إبداع رؤية جديدة أو نظرة جديدة؟ ليس هناك إبداع بدون جذور.. ليس هناك إبداع بدون "نحن" تكون هي المنبع والمصب. المفكر حين يُبدع يستجيب لاحتياج معين يطرحه عليه مجتمعه وعصره ثم يعود بإبداعه إلى الـ "نحن". الشاعر حين يبدع قصيدة لا يكتمل إبداعه إلا بالعودة إلى الـ "نحن". المخترع.. العالم.. الفنان .. كلهم منطلقهم ومرجعيتهم هي الـ "نحن". (للدكتور «مصطفى سويف» دراسة قيّمة حول هذا الموضوع بعنوان "الأسس النفسية للإبداع الفني").

لكنني، بعد هذا كله لا أُريد أن أظلم محاوريّ الثلاثة، فغياب ما أسميته بـ "الحس التاريخي" ظاهرة عامة يشكو منها المؤرخون الآن، لا في بلادنا فحسب، بل في "العالم المتقدم" أيضا. وهكذا نجد، على سبيل المثال، مؤرخا كبيرا مثل «إريك هوبسباوم»، يقول في مستهل كتابه عن تاريخ القرن العشرين: "إن تدمير الماضي، أو بالأحرى الميكانيزمات الاجتماعية التي تربط التجربة المعاصرة بتجربة الأجيال السابقة، هو ظاهرة من أهم الظواهر المميزة والغريبة في أواخر القرن العشرين، فمعظم الشبان والشابات في نهاية القرن درجوا على العيش في نوع من الحاضر الدائم يفتقر إلى أي صلة بالماضي العام للعصر الذي يعيشون فيه".
[Eric Hobsbawm, Age of Extremes: The Short Twentieth Century, Abacus, 1997, p. 3.]

لا أريد أن أظلمهم أيضا لأنني أعلم أن الواقع الذي نعيشه لا يغري كثيرا بالعودة إلى التاريخ، ولأنني أدرك أننا نعيش في عصر "الصورة" التي تُبهر أنظارنا بالحدث الراهن وتُغذي فينا الوهم بـ "الحاضر الدائم"، وأدرك فوق ذلك أن الكتب باهظة الثمن بعيدة عن متناولنا، وربما كانت بسبيلها إلى أن تصبح "موضة قديمة" وظاهرة منقرضة.

أقول مرة أخرى إن مهمتي صعبة.

ولكنني أُقدم عليها مؤمنا بجدواها، ساعيا قدر طاقتي إلى إقناع محاوريّ الثلاثة، مُسلما بأهمية ما يقولونه وأهمية الرد عليه. لا تُراودني أدنى رغبة في الظَفَر الرخيص أو فرض الرأي، فنحن نتحاور والحوار أخذٌ ورد. ولست أنكر عليهم فضلهم في دفعي إلى إمعان الفِكر ومُراجعة الرأي وصقل التصورات.

وأود أن أوضح من البداية أنني لا استهدف بمناقشتي أشخاصا معينين. وقد عمدت إلى عدم الإشارة إلى عناوين مدونات محاوريّ الثلاثة حرصا على ألا تتخذ المناقشة طابعا شخصيا، وألا يُشتمَّ منها أي انتقاد أو تجريح شخصي.

كل ما أرجوه الآن هو أن يستقبلوا كلامي برحابة صدر وأن يجد الجهد الذي بذلته صدى عندهم، وأن ينتظروني حتى أُتم حديثي الطويل جدا هذه المرة - فأنا مُطالب بالنظر في أربعة عشر قرنا من الزمان – ليطرحوا بعد ذلك كل ما يعن لهم من أسئلة واعتراضات، حتى لا تتشتت المناقشة ويضيع خيط الحوار، وأنا عندئذ تحت الأمر ورهن الإشارة.

لا ارتاب في نوايا أحد ولا أُفتش في الضمائر. فالناس عندي – كما كانوا عند شاعرنا الكبير «فؤاد حداد» "اثنان: الصادقون والمشتاقون إلى الصدق، الطيبون والمتلهفون إلى الطيب".

أرجو أن أكون عند حُسن الظن.


والحديث متصــــل ..