٢٠ يناير ٢٠٠٧

 

لبنان: شعب صنع حريته


«سيمون عساف»

في اليوم الأخير للحرب، قبيل دخول قرار وقف إطلاق النار حيز النفاذ، كانت لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» خطة ظن انه يستطيع أن ينتزع بها النصر من بين فكي الهزيمة.

كان «أولمرت» ينوي نقل آلاف من الجنود المحمولين جواً إلى نهر الليطاني ذي الموقع الاستراتيجي الذي يبعد حوالي 20 ميلاً شمالي خط الحدود بين لبنان وإسرائيل. وكان يريد أن يستولي عندئذٍ على أكبر مساحة من الأرض وألا يسلم هذه المواقع لقوات الأمم المتحدة إلا بعد أن تكون القوات الإسرائيلية قد أنجزت كل ما تريده فيها.

من وجهة النظر العسكرية، كانت الخطة لا غبار عليها، لكن القوة المتحكمة في مصير الحرب كانت تقع خارج سيطرة إسرائيل. كانت هذه القوة هي أغلبية اللبنانيين العاديين.

حين كان الجيش الإسرائيلي يتحرك [لتنفيذ هذه الخطة] في يوم الأحد 13 أغسطس، وجّه تحذيراً إلى السكان من العودة إلى مساكنهم في الجنوب اللبناني. لكن السكان تجاهلوا هذه التحذيرات.

في نفس اللحظة التي بدأ فيها سريان وقف إطلاق النار، وفي مشاهد تُعيد إلى الذاكرة الحركة الجماهيرية التي أجبرت الإسرائيليين على الخروج من الجنوب اللبناني في مايو سنة 2000، كان المهاجرون اللبنانيون يغادرون مئات من مراكز اللجوء. وأخذت كتلة هائلة من البشر في التحرك نحو الجنوب، ولم يكن بوسع الإسرائيليين أن يفعلوا شيئا لوقفها.

غصت الطرق الواقعة جنوب بيروت بالعائلات العائدة التي راحت ترسم بأصابعها علامات النصر في أرتال من السيارات يحمل، بعضها سبعة من الركاب، وترفرف عليها الأعلام – العلم اللبناني إلى جانب علم حزب الله. كانوا يهتفون: "نحن ذاهبون إلى الجنوب. النصر لحزب الله!"

و كانت مجموعات من السكان المحليين قد أخذت في تنظيف الممرات على امتداد الطريق، مزيحة عنها أكوام الكابلات الكهربائية والركام وأسياخ الحديد الملتوية، فلا يلبث أن يتكون رتل جديد من السيارات ليمر من خلال كل ثغرة جديدة تُفتح في أكوم الركام.

لم تكن هناك أية قوات للجيش أو الشرطة على امتداد أميال الطريق المدمّر المؤدي إلى الجنوب. كان أبناء المنطقة هم الذين ينظمون حركة المرور، ويرشدون السيارات لتفادي مواقع الحفر الخطرة، ويدفعون الحافلات لاعتلاء الممرات الرملية حول الكباري المدمّرة.

كان اللاجئون عندما يقتربون من ديارهم، يبدأون في التجمع في أطراف قراهم وأحيائهم السكنية مشكلين مواكب حاشدة. هكذا استعادوا بلداتهم وقراهم، بلدة بعد بلدة وقرية بعد قرية. وحين أحس الإسرائيليون بعجزهم عن مواجهة هذا السيل البشري الجارف، هجروا مواقعهم وأخذوا في الفرار نحو الحدود.

هذا السيل البشري الذي اضطلع بدور حاسم في إحباط الهجوم الإسرائيلي كان ثمرة لحركة جماهيرية غير مسبوقة أخذت تتنامى عبر لبنان بينما القنابل تنهمر كالمطر.

وقد مارست هذه الحركة عملها بمعزل عن أي تنظيم حكومي رسمي، وكان زمام المبادرة فيها في أيدي السكان المحليين في أغلب الأحيان:

الطهاة يتولون العمل في مطابخ الفنادق الكبرى لإطعام عشرات الآلاف من المهجرين..

سكان الأحياء في مناطق اللجوء يتنقلون من بيت إلى آخر ليأتوا منها بالوجبات الساخنة والملابس وحليب الأطفال والبطاطين..

أطباء وفرق للرعاية الطبية يفتحون عيادات مؤقتة..

الشقق الخالية تُفتح لإيواء عائلات اللاجئين.

ظل الإسرائيليون طيلة أكثر من شهر يأملون في إجبار حزب الله على الاستسلام عن طريق ترويع سكان الأحياء الشيعية.

لكن هذه الأحياء كانت قد أُخليت من معظم سكانها. فرغم حدوث وفيات مؤلمة كثيرة بين المدنيين، فإن الطائرات كانت تقصف في الغالب مناطق تكاد تخلو من ساكنيها.

وكانت هذه الحركة الجديدة ذات طابع طبقي أيضا. فمنطقة سوق "الطبقة الراقية"، التي بنيت حديثا في بيروت، أغلقت أبوابها أمام اللاجئين. كما أُغلقت أمامهم أيضا الشبكة الواسعة للملاجئ المبنية تحت الأرض. وكانت المؤن الحكومية من الأغذية والمواد الضرورية مخبأة في أماكن بعيدة أو تُباع بأسعارٍ باهظةٍ.

ومع ذلك، تمكنت المقاومة المدنية من منع حدوث أزمة لاجئين. فقد جرى استيعاب أكثر من مليون لاجئ نزحوا من ديارهم في مدارس ومنتزهات عامة ومساكن خاصة، و وُفر لهم الطعام والملابس والملاذ الآمن بعيدا عن المناطق التي كانت تستهدفها القاذفات الإسرائيلية.

لقد تحوّل النازحون، بفضل الدعم الفعال من جانب الكثير من بسطاء الناس، إلى كتلةٍ منظمةٍ من البشر الغاضبين ولم يعودوا مجرد حشد من اللاجئين اليائسين. وهكذا أصبحت لهم الكلمة الأخيرة في صباح اليوم الذي بدأ فيه وقف إطلاق النار.

وبدلا ًمن أن يتمكن الإسرائيليون من انتزاع النصر الأخير، وجدوا أنهم قد ساقوا أنفسهم إلى مصيدة خطرة: حشود هائلة تتدفق من الشمال بينما ظل المقاتلون من رجال حزب الله يسيطرون على الجنوب.

مع حلول المساء، وصل اللاجئون إلى بلدة «بنت جبيل» الحدودية التي كانت مسرحاً لبعض من أشد مشاهد القتال ضراوة أثناء الحرب. كان الدمار الذي ألحقته القنابل الإسرائيلية بالطرق بشعاً، فاضطروا إلى ترك سياراتهم والسير إلى البلدة على الأقدام.

كلما وجدوا جنوداً إسرائيليين، كانوا يرشقونهم بالحجارة ويصرخون في وجوههم طالبين منهم الرحيل عن أرضهم.

أصبحت بعض الوحدات الإسرائيلية معزولة بينما انسحبت وحدات أخرى إلى الحدود. وتحولت خطة "الزحف إلى الليطاني" إلى هزيمة نكراء للجيش الإسرائيلي.

ولما كان وقف إطلاق النار قد بدأ رسمياً، لم يكن أمام مقاتلي حزب الله سوى مرافقة الوحدات الإسرائيلية المعزولة مخفورةً إلى الحدود.

كان هذا هو الإذلال الأخير لجيش من أقوى جيوش العالم.. الإذلال الذي تلقاه على أيدي الشعب.


عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:
Lebanon: Freedom from below
By Simon Assaf
(ترجمة: الشارع السياسي)

١٢ يناير ٢٠٠٧

 

كيف هزم حزب الله إسرائيل (3)


الجزء الثالث: الحرب السياسية

«ألاستير كروك» و«مارك بيري»*

عقب انتهاء الحرب بين إسرائيل وحزب الله، أُجري استطلاع للرأي في مصر طُلب فيه من قطاعٍ مستعرضٍ من مواطني ذلك البلد أن يذكروا أكثر قائدين سياسين يحظيان بإعجابهم. وقد وقع اختيار العدد الأكبر ممن استطلعت آراؤهم على «حسن نصر الله»، بينما حصل الرئيس الإيراني «محمود أحمدي نجاد» على المركز الثاني.

لم تكن نتائج هذا الاستطلاع للرأي تنم فقط عن نبذٍ واضح للرئيس المصري «حسني مبارك»، الذي أعلن منذ بداية الحرب آراءه المناوئة لحزب الله، بل كانت تنبذ أيضاً أولئك القادة السنيين- ومنهم «عبد الله» ملك السعودية و«عبد الله الثاني» ملك الأردن- الذين انتقدوا الجماعة الشيعية في محاولة ظاهرة لإبعاد أهل السنة عن تأييد إيران.

وفي أواخر أغسطس، قال دبلوماسي أمريكي يعمل في المنطقة: "مع نهاية الحرب كان هؤلاء يتهافتون للبحث عن مخرج للنجاة من المأزق. إن أحداً منهم لم يفتح فمه بكلمة في الآونة الأخيرة. هل سمعت أحداً منهم يتكلم؟".

لم يكن «مبارك» وملكا السعودية والأردن هم وحدهم الذين يبحثون عن مخرج من المأزق- بل كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، ولو بحُكم الأوضاع المتزايدة القسوة لقواتها في العراق، في موقفٍ لا تُحسد عليه هي الأخرى. يؤكد دبلوماسي آخر بلهجة قاطعة: "إن ما يعنيه ذلك هو أن جميع الأبواب مغلقة أمامنا، في القاهرة وفي عمان وفي السعودية. إن قدرتنا على الوصول إليهم أصبحت معطلة. لا أحد يريد أن يرانا. لا أحد يرفع سماعة الهاتف للرد علينا."

بوسعنا، للنفاذ إلى أسباب هذا الانهيار، أن نجد مفتاحاً في مسلك وزيرة الخارجية الأمريكية «كوندوليزا رايس» التي أدى عجزها عن إقناع الرئيس «بوش» بوقف القتال، ووصفها للحرب بأنها "آلام المخاض" لشرق أوسط جديد، إلى الإجهاز على مصداقيتها في واقع الأمر.

وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها ستحاول استعادة وضعها بدعم خطة سلام إسرائيلية فلسطينية يجري الإعلان عنها فيما بعد. ولكن استمرار أمريكا في تضييق الخناق على الحكومة الفلسطينية المشكلة ديموقراطياً حوّلَ ذلك الوعد إلى برنامج سياسي مقضي عليه بالموت قبل أن يولد. والسبب في ذلك واضح الآن أشد الوضوح. ففي أثناء الحرب، وفي معرض وصف الانفعالات التي تجتاح الساحة السياسية المصرية، قال أحد المسئولين الأوربيين في القاهرة: "إن القيادة السياسية المصرية تسير على جانب من الطريق بينما يسير الشعب المصري على الجانب الآخر".

إن الفشل الكارثي للجيش الإسرائيلي قد دعم دعاوى إيران الطامحة إلى قيادة العالم الإسلامي، وذلك من وجوه عديدة بالغة الأهمية.

فأولاً، أظهر انتصار حزب الله أن إسرائيل - وأية قوة عسكرية غربية حديثة ومتقدمة تكنولوجيا - يمكن أن تُهزم في قتال مفتوح إذا ما استُخدِمت التكتيكات العسكرية المناسبة وإذا ما أمكن الصمود في القتال لفترة ممتدة. لقد قدّم حزب الله نموذجاً لكيفية هزيمة جيش حديث. وهذه التكتيكات بسيطة: عليك أن تصمد حتى تمر الموجة الأولى للحملة الجوية الغربية، ثم تقوم بنشر قوات صاروخية تستهدف موارد عسكرية واقتصادية رئيسية للعدو، ثم تعود للصمود مرة أخرى حتى تمر حملة جوية ثانية وأشد خطورة، وأن تقوم بعد ذلك بإطالة أمد النزاع لفترة ممتدة. سيضطر العدو في لحظةٍ ما، كما حدث في هجوم إسرائيل على حزب الله، إلى الاستعانة بقوات برية كي تُنجز ما عجزت قواته الجوية عن تحقيقه. في هذه المرحلة الأخيرة والحرجة، يمكن لقوة متفانية، ذات تدريب جيد وقيادة جيدة، أن تُنزل ضربات موجعة بمؤسسة عسكرية حديثة وأن تهزمها.

وثانياً، أظهر انتصار حزب الله لشعوب العالم الإسلامي أن الإستراتيجية التي تنتهجها حكومات البلدان العربية والإسلامية المتحالفة مع الغرب - أي السياسة التي تقوم على استرضاء المصالح الغربية بأمل الحصول على جوائز سياسية ذات شأن ( الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، أسعار مجزية لصادرات الشرق الأوسط، و عدم التدخل في الهياكل السياسية، وانتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة) - لا يمكن أن تنجح لا في الحاضر ولا في المستقبل. لقد قدّم حزب الله نموذجاً جديداً ومختلفاً للإطاحة بهيمنة الولايات المتحدة وتقويض مكانتها في المنطقة. فإذا كان غزو العراق وانتصار حزب الله على إسرائيل هما أهم حدثين شهدتهما الفترة الأخيرة في الشرق الأوسط، فإن أهمية الحدث الثاني [أي انتصار حزب الله] أكبر بكثير. فالجماعات الأخرى المعادية لحزب الله، بل والجماعات المرتبطة بحركات المقاومة السنية الثورية التي تعتبر الشيعة طائفة "مارقة"، قد فقدت الكثير من مكانتها.

وثالثاً، فقد كان لانتصار حزب الله أثر ساحق على حلفاء أمريكا في المنطقة. لقد كان بوسع حزب الله، في تقدير مسئولي المخابرات الإسرائيلية، مواصلة الحرب لمدة ثلاثة شهور أخرى بعد انتهائها في منتصف أغسطس. وإذا كانت تقديرات حزب الله تؤكد هذه النتيجة التي توصلت إليها إسرائيل فان أحداً لا يستطيع أن يجزم بأنه كان بوسع حزب الله أو القيادة الإيرانية التنبؤ بالمسار الواجب اتخاذه بعد انتصار حزب الله. وبينما قامت المخابرات الأردنية بتطويق أية مظاهرات مناصرة لحزب الله، كانت المخابرات المصرية تحاول جاهدة رصد السخط الشعبي المتزايد إزاء الغارات الإسرائيلية على لبنان.

إن التأييد السافر لحزب الله على امتداد العالم العربي (ومن الغريب انه شمل حمل صوّر لـ«حسن نصر الله»، قائد حزب الله، وسط تجمعاتٍ مسيحيةٍ مؤيدةٍ له) قد وضع الحكامَ العرب الأقرب إلى الولايات المتحدة في موضع الحيطة والحذر، فقد كان أي تدهور جديد في مركزهم كفيلاً بإضعاف سيطرتهم على شعوبهم. ومن هنا، فمن المرجح جداً ألا يمنح «مبارك» وملكا السعودية والأردن تأييدهم لأي برنامج أمريكي لفرض ضغوط اقتصادية أو سياسية أو عسكرية على إيران. فشن حرب أخرى - ربما اتخذت صورة حملة عسكرية أمريكية على المواقع النووية الإيرانية - قد لا يؤدي إلى الإطاحة بحكومة طهران، لكنه سيؤدي على الأرجح إلى الإطاحة بحكومتي مصر والأردن وربما بحكومة السعودية أيضاً.

في لحظةٍ فارقةٍ من الصراع بين إسرائيل وحزب الله، وبينما كانت الحرب تدنو من نهايتها، أخذ قادة الحركات الإسلامية في عدد من البلدان يتساءلون عما إذا كان بوسعهم الاستمرار في السيطرة على جماهيرهم، أم أن عليهم أن يتركوا قياد العمل السياسي لأيدي القادة والثوريين في الشارع. إن الفكرة الأبرز الشائعة الآن في دوائر المخابرات بالولايات المتحدة تقول إن إسرائيل (وليس حزب الله) هي التي كانت تبحث، ابتداء من العاشر من أغسطس، عن مخرج من الحرب.

ورابعاً، فان انتصار حزب الله قد أضعف الحكومة الإسرائيلية على نحو خطير. ففي أعقاب الحرب التي خسرتها إسرائيل في عام 1973 قرر رئيس الوزراء «مناحم بيجين» أن يقبل السلام الذي عرضه عليه الرئيس المصري «أنور السادات». لكن التقدم الذي تحقق حينذاك كان، في واقع الأمر، متواضعاً. ذلك أن كلا الطرفين كان حليفاً للولايات المتحدة. ولن يحدث تقدم من هذا القبيل بين إسرائيل وحزب الله.

إن إسرائيل تعتقد أنها فقدت قدراتها الرادعة وأن عليها أن تستردها. وهناك من المسئولين الإسرائيليين العاملين في واشنطن من يؤكد أن السؤال المطروح الآن ليس "إذا" ما كانت إسرائيل ستقدم على شن الحرب مرة أخرى ولكنه "متى" ستقوم بذلك. على أنه من الصعب أن نحدد كيف تستطيع إسرائيل أن تفعل ذلك. فلكي تقاتل إسرائيل حزب الله وتنتصر عليه، لابد لها من إعادة تدريب جيشها وتجهيزه. سيكون على إسرائيل، كما فعلت الولايات المتحدة بعد قارعة فيتنام، أن تعيد هيكلة قيادتها العسكرية وبناء أجهزة مخابراتها. وهذا أمر يحتاج إلى سنوات وليس إلى شهور.

ربما عمدت إسرائيل في عملياتها المقبلة إلى نشر أسلحة أكبر ضد أهداف أوسع نطاقا. وفي ضوء أدائها في لبنان، فانه لا يمكن استبعاد أن يُواجه هذا الاستخدام لأسلحةٍ أكبر بردٍ أكثر قوة من الطرف الآخر. ومن المرجّح أن شن الولايات المتحدة لهجوم على المنشآت النووية الإيرانية سوف يُواجه بشن هجوم صاروخي إيراني على منشآت إسرائيل النووية وعلى المراكز السكانية الإسرائيلية. وليس بوسع أحد أن يتنبأ بالكيفية التي سترد بها إسرائيل على مثل هذا الهجوم، لكن من الواضح (في ضوء الموقف الذي اتخذه «بوش» في الحرب الأخيرة) أن الولايات المتحدة لن تفعل شيئا لوقفه. ومن المؤكد أن "البيت الزجاجي" لمنطقة الخليج الفارسي سوف يتحول عندئذ إلى شظايا بعد أن تستهدفه الصواريخ الإيرانية.

وخامساً، فان انتصار حزب الله يعني نهاية أي أمل في حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط. فحتى الشخصيات الإسرائيلية التي تُوصف عادة ب"التقدمية" قد قوّضت مركزها السياسي حين دعت بملء الصوت إلى استخدام المزيد من القوة والمزيد من القوات والمزيد من القنابل. وقد وبّخ الرئيس الفلسطيني «محمود عباس»، في اجتماعاته الخاصة مع حلفائه السياسيين، أولئك الذين أعربوا عن ابتهاجهم لانتصار حزب الله ونعتهم ب "مؤيدي حماس" و "أعداء إسرائيل". وموقف عباس أكثر هشاشة بكثير من موقف «مبارك» وملكي السعودية والأردن. فالفلسطينيون مستمرون في تأييد حماس، بينما يستمر هو في الاتفاق بخنوع مع «جورج بوش» الذي طلب منه،[أثناء لقائه به] على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، أن يضع حداً لجميع المحاولات الرامية لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع مواطنيه الفلسطينيين.

وسادساً، فقد أسفر انتصار حزب الله عن نتيجة بالغة السوء هي إعماء القيادة السياسية الإسرائيلية عن حقيقة وضعها الجيو-ستراتيجي. ففي غمرة الحرب مع لبنان، تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» لغة «بوش» عن "الحرب على الإرهاب" مذكّراً مواطنيه بأن حزب الله جزء من "محور الشر". ولقي هذا الموقف دعماً من «بوش» الذي تعرض، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خمس مرات لكلٍ من حماس وحزب الله في حين لم يذكر اسم منظمة القاعدة سوى مرة واحدة. وهكذا تضع الولايات المتحدة وإسرائيل جماعاتٍ إسلامية ترغب في المشاركة في العمليات السياسية في بلدانها في سلةٍ واحدةٍ مع أولئك التكفيريين والسلفيين الذين لا همّ لهم سوى تأجيج النار في المنطقة.

يُضاف إلى ذلك انه لم يعد بوسع إسرائيل الآن الاعتماد على أقوى مؤيديها في الولايات المتحدة، أي على شبكة المحافظين الجدد الذين تمثل إسرائيل في نظرهم واحة الاستقرار والديموقراطية في المنطقة. فعدم رضا أولئك المحافظين الجدد عن أداء إسرائيل كان واضحاً بما لا يكاد يقبل الشك. ومع أصدقاء من هذا النوع، من يرغب أن يكون له أعداء؟ معنى هذا أن الحرب الإسرائيلية في لبنان تعبّر بدقة عن رأي الخبراء الذين اعتبروا الحرب بين إسرائيل وحزب الله حرباً بالوكالة. يقول زميلنا «جف ارونسن»: "لو كان الأمر بيد الولايات المتحدة وحدها لظلت إسرائيل تحارب حتى الآن. ويضيف: "إن الولايات المتحدة سوف تخوض حربها على الإرهاب لآخر قطرة من الدم الإسرائيلي".

إن الضعف المستمر للقيادة العسكرية الإسرائيلية وعدم إدراكها لمدى عمق الهزيمة التي حاقت بها، لابد أن يكونا مبعث قلق عميق للولايات المتحدة ولكل دولة عربية. فقد برهنت إسرائيل من قبل على قدرتها على تشكيل إستراتيجية دبلوماسية خلاقة وعلى المناورة بمهارة لاستعادة مكانتها. كما برهنت على قدرتها على القيام، في أعقاب هزيمة عسكرية، بعملية أمينة وشفافة لمراجعة النفس. وتمثلت قوة إسرائيل دائما في قدرتها على طرح مناقشة عامة، حتى حين تثير هذه المناقشة شكوكاً في أقدس مؤسسة لديها وهي جيش الدفاع الإسرائيلي. وفي لحظات حاسمة في التاريخ الإسرائيلي أدت الهزيمة إلى تفكير متعمق، ولم تؤدِ - كما يبدو من المرجح الآن - إلى هجمة عسكرية متصاعدة ضد حماس - الأخ الناشز عن القطيع في الشرق الأوسط - لمجرد إظهار مدى جبروتها.

منذ فترة قصيرة قال أحد المسئولين الإسرائيليين: "إن كون انتصار حزب الله قد عمّق الراديكالية في الشرق الأوسط هو سبب وجيه لقتل المزيد منهم". وهذا مسلك من شأنه أن يقود إلى الكارثة. ففي ضوء العجز الأمريكي عن تغيير مجريات الأمور في الشرق الأوسط، يراود البعض في واشنطن أملٌ في أن يبدي أولمرت من الشجاعة السياسية ما يجعله يشرع في عملية طويلة للتوصل إلى السلام. وهذه العملية ستكون مؤلمة، وستقتضي مناقشات طويلة وصعبة، وربما اقتضت أيضاً انفصالاً عن البرنامج الأمريكي للمنطقة. لكن الولايات المتحدة لا تعيش في المنطقة وإسرائيل تعيش فيها. وإذا كان إجراء إسرائيل لحوار مع جيرانها قد يكون مؤلماً، فانه سيكون أقل إيلاماً، بما لا يقاس، من خسارتها لحرب في لبنان.

وسابعاً، فقد تعزز وضع حزب الله داخل لبنان على نحو يتجاوز أي قياس، كما تعزز وضع أهم حلفائه. ففي ذروة الحرب، استضاف مسيحيون لبنانيون لاجئين من [عائلات] حزب الله في بيوتهم. وأعلن الزعيم المسيحي «ميشيل عون» تأييده للقتال الذي يخوضه حزب الله. وقال أحد قادة حزب الله: "لن ننسى أبداً ما صنعه هذا الرجل من أجلنا وما قدمه من أجل جيلٍ كامل". ويحظى موقف «عون» بالإشادة من جانب الشيعة كما أن وضعه السياسي قد تعزز.

أما القيادة السنية فقد قوّضت مكانتها على نحو قاتل بموقفها الملتبس وبتعاملها مع الطائفة السنية من منظور السيد الإقطاعي الغائب عن أملاكه. ففي الأسبوع الأول من الحرب، قوبلت تصرفات حزب الله بتشكك واسع الانتشار. وفي نهاية الحرب كان التأييد الذي يلقاه راسخا واتسع عبر لبنان متجاوزا التقسيمات السياسية والطائفية. وتجد القيادة السنية نفسها الآن بين خيارين: إما تشكيل حكومة وحدة مع قادة جدد بما يؤدي إلى قيام حكومة أكثر تمثيلا وإما الدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة. ولا يحتاج المرء إلى عبقرية سياسية لكي يدرك الموقف الذي سيختاره «سعد الحريري» زعيم الأغلبية في البرلمان اللبناني.

وثامناً، فقد تعزز وضع إيران في العراق إلى حد كبير. ففي غمرة الحرب في لبنان، أعرب وزير الدفاع الأمريكي «دونالد رمسفيلد» لبعض المقربين عن قلقه من أن يؤدي الهجوم الإسرائيلي [في لبنان] إلى نتائج وخيمة للقوات الأمريكية في العراق التي كانت تواجه عداء متزايدا من القادة الشيعة والسكان الشيعة. وقد أدلت «كوندوليزا رايس» بتصريحات قالت فيها إن المظاهرات المؤيدة لحزب الله في بغداد مدبرة من إيران، الأمر الذي يكشف عن جهلها بأبسط الحقائق السياسية في المنطقة. إن وزيرة الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين كانا ببساطة، ودون دراية منهما، يجهلان وجود أية علاقة بين الصدريين في بغداد و "الصدريين" في لبنان. لقد كان لموقف رئيس الوزراء العراقي، «نوري المالكي»، حين لم يعلن خلال الحرب وأثناء زيارة رسمية لواشنطن، عن إدانته لحزب الله ووقوفه إلى جانب إسرائيل، وقع الصدمة على القيادة السياسية الأمريكية، وذلك على الرغم من أن "حزب الله في العراق" هو أحد الأحزاب المشاركة في الحكومة الائتلافية الحالية في العراق.

لا البنتاجون ولا وزارة الخارجية الأمريكية كانا، فيما علمنا، على درايةٍ بالأثر الذي قد تحدثه الحرب في لبنان على وضع أمريكا في العراق، لأن أياً من هاتين الوزارتين لم تطلب من أجهزة المخابرات الأمريكية إمدادها بمعلومات حول هذه المسألة. إن الولايات المتحدة تنفق مليارات الدولارات سنويا لجمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، ولكن هذا المال يذهب سدى.

وتاسعاً، فان مركز سوريا قد تعزز في حين فشل البرنامج الأمريكي- الفرنسي للبنان. فليس ثمة دلائل في الأفق توحي بأن لبنان سوف يشكّل حكومة موالية لأمريكا ومعادية لسوريا بشكل سافر. وكون الرئيس السوري، «بشار الأسد»، قد استطاع أن يقترح في أعقاب الحرب ترتيباً سياسياً مع إسرائيل، فان هذا دليل قوة لا دليل ضعف. وليس من المستبعد أيضاً أن يتمكن [«بشار الأسد»] من استخلاص الدروس الصحيحة من الحرب، وأن يعتقد انه قادر، هو الآخر، على مواجهة إسرائيل بنجاح.

ولكن بصرف النظر عن هذه الاحتمالات، فان الأحداث التي جرت في الآونة الأخيرة تبين أن آلافاً من الطلاب والوطنيين اللبنانيين الذين خرجوا للاحتجاج على التورط السوري في لبنان بعد مقتل «رفيق الحريري»، قد استشعروا غرابة المفارقة حين وجدوا أنفسهم يحتمون من القصف الإسرائيلي في مخيمات أقامتها الحكومة السورية. لقد أصابت «رايس» في أمر واحد هو قولها إن قيام سوريا بتوفير ملاذ للاجئين اللبنانيين كان مجرد عمل من أعمال الدهاء السياسي - عمل يبدو أن الولايات المتحدة عاجزة عن محاكاته. إن سوريا واثقة الآن من وضعها السياسي. وفي حقبة سابقة، كان وجود مثل هذه الثقة عند إسرائيل يدفعها إلى طرح مبادرات سياسية تجاه أكثر أعدائها السياسيين تشددا.

وعاشراً، وربما كان هذا هو الأمر الأهم، فقد غدا من الواضح الآن أن قيام الولايات المتحدة بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية لن يلقى سوى تأييد ضئيل من العالم الإسلامي. ومن المرجح أن يؤدي أيضاً إلى رد عسكري يطيح بالبقايا الأخيرة للقوة السياسية الأمريكية في المنطقة. فالأمر الذي كان يُظن انه "حقيقةٌ مفروغٌ منها" منذ بضعة أسابيع قد غدا من الواضح الآن انه بعيد الاحتمال. فإيران لن تُجبر على الإذعان. وإذا شنت الولايات المتحدة حملةً عسكرية على حكومة طهران، فسوف ينحدر أصدقاء أمريكا في المنطقة إلى مأزق شديد الخطورة، سوف ترتعد دول الخليج العربية خوفاً، وسيتحول ال 138 ألف جندي أمريكي في العراق إلى رهائن في أيدي السكان الشيعة الممتلئين غضبا، وسوف ترد إيران بشن هجوم على إسرائيل. بوسعنا الآن أن نتجاسر فنقول ما أصبح واضحا: إذا ما حدث هذا الهجوم فان الولايات المتحدة سوف تُهزم.

الخلاصة

إن دلالة انتصار حزب الله في حربه الأخيرة مع إسرائيل أكبر بكثير جداً مما تدرك الولايات المتحدة وأوربا. فقد جاء انتصار حزب الله ليعكس اتجاه المد [الإسرائيلي] في عام 1967 - حين مُنيت مصر وسوريا والأردن بهزيمة ساحقة أدت إلى زلزلة الكيانات السياسية في المنطقة ومجيء أنظمة لا هَمّ لها سوى إعادة تشكيل سياستها الخارجية بما يلائم القوة الإسرائيلية والأمريكية. إن تلك القوة قد أصيبت في مكانتها وانتكست، وهناك الآن قيادة جديدة تبزغ في المنطقة.

إن الدرس الأهم المستخلص من الحرب قد يغيب عن المستويات الرفيعة للنخب السياسية في واشنطن ولندن - تلك النخب المؤيدة لإسرائيل والتي تقول إنها تدافع عن القيم و تحارب من أجل الحضارة - ولكنه لا يغيب عن شوارع القاهرة وعمان ورام الله وبغداد ودمشق وطهران. لقد حاربت الجيوش العربية ستة أيام في عام 1967 وهُزمت، وقاتلت ميلشيا حزب الله في لبنان 34 يوما وانتصرت. وقد رأينا هذا بأعيننا في مقاهي القاهرة وعمان، حيث كان البسطاء من أصحاب الدكاكين والفلاحين والعمال يحملقون في شاشات التليفزيون ليتابعوا نشرات الأخبار بينما يرشفون الشاي ويواصلون بهدوء - وكأنما يكلّمون أنفسهم- إحصاء الأرقام: "سبعة"، "ثمانية"، "تسعة"....
____________________________
ألاستير كروك» و«مارك بيري» هما مديرا «منتدى النزاعات». «كروك» مسئول سابق في المخابرات البريطانية (MI6) ومستشار شئون الشرق الأوسط السابق لـ«خافيير سولانا»، الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي. أما «بيري» فهو محلل وكاتب متخصص في شئون العسكرية والاستخباراتية وشئون السياسية الخارجية ومؤلف لعدة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:
HOW HEZBOLLAH DEFEATED ISRAEL
PART 3: The political war

By Alastair Crooke and Mark Perry
(ترجمة: الشارع السياسي)

الجزء الأول: الانتصار في حرب المخابرات
الجزء الثاني: الانتصار في الحرب البرية

٠٨ يناير ٢٠٠٧

 

كيف هزم حزب الله إسرائيل (2)


الجزء الثاني: الانتصار في الحرب البرية

«ألاستير كروك» و«مارك بيري»*

دبابتا ميركافا إسرائيليتان مشتعلتان في جنوب لبنان


كان قرار إسرائيل بشن حرب برية - تحقق ما فشل سلاحها الجوي في تحقيقه - مشوبا بالتردد والعشوائية. فبينما كانت وحدات جيش الدفاع الإسرائيلي تشن هجمات خاطفة على جنوب لبنان أثناء الأسبوع الثاني من الحرب، لم تكن القيادة العسكرية الإسرائيلية قد حسمت قراراها بعد حول موعد ومواقع نشر وحداتها البرية - بل لم تكن قد حسمت بعد إذا ما كانت ستنشر هذه القوات أم لا تنشرها.

وكانت حيرة الجيش {الإسرائيلي}، حول زمان ومكان وجدوى نشر وحداته البرية الرئيسية، ترجع جزئياً إلى إدعاءات سلاح الجو بالنصر. فقد ظل سلاح الجو الإسرائيلي يدعي، يوما بعد يوم، أنه سينجح {في تحقيق النصر} من الجو في غضون يوم واحد، ثم يعود في اليوم التالي ليطلب يوما آخر. وانعكست هذه الحيرة على وسائل الإعلام الغربية بدورها، فكانت عاجزة عن القطع بموعد شن الهجوم البري أو إذا ما كان هذا الهجوم قد بدأ فعلا ًدون دراية منها.

واستمر كبار الضباط الإسرائيليين في التصريح لمعارفهم من الصحفيين بأن موعد الهجوم البري هو سر في طي الكتمان بينما كانوا هم أنفسهم، في الحقيقة، لا يدرون شيئا عن هذا الموعد. و كان التردد راجعاً أيضاً إلى تجربة وحدات الجيش الإسرائيلي الصغيرة التي كانت قد اخترقت الحدود. فقد أبلغت وحدات الجيش الإسرائيلي الخاصة، العاملة في جنوب لبنان، قادتها مبكراً ومنذ 18 يوليو أن وحدات حزب الله تخوض قتالاً شرساً للاحتفاظ بمواقعها على خط الحافة الأول المطل على إسرائيل.

هنا اتخذ رئيس الوزراء «إيهود أولمرت» قراراً سياسياً باستخدام كل ما لدى الجيش الإسرائيلي من قوة لهزيمة حزب الله، في نفس الوقت الذي كان فيه كبار مساعديه يبدون استعداد إسرائيل للقبول بوقف لإطلاق النار ونشر قوة دولية. أصر «أولمرت» أن إسرائيل يجب ألا تفصح عن نواياها - فهي قد تقبل نشر قوة تابعة للأمم المتحدة ولكن فقط كخيار أخير.

قرر «أولمرت» أن إسرائيل ستقول، بدايةً، أنها ستقبل بقوة تابعة لحلف الأطلنطي (الناتو). وانسجاماً مع هذه الإستراتيجية جرى استدعاء قوات الاحتياط إلى الجبهة في 21 يوليو. وكان هذا الاستدعاء المفاجئ (كان المفترض أن يحاول الجيش الإسرائيلي أولا هزيمة حزب الله من الجو، فإن لم ينجح فباستخدام القوات النظامية دون استدعاء للاحتياطي) هو الذي جعل نشر الاحتياطي يبدأ بعجلة ودون تنسيق. (نكرر هنا مرة أخرى أن إسرائيل، على الأرجح، لم تكن تعتقد أنها ستضطر إلى استدعاء قوات الاحتياطي خلال الحرب وإلا كانت استدعتها قبل ذلك بكثير).

علاوة على ذلك، فقد فاجأ قرار استدعاء الاحتياطي ضباط احتياط كبار أساسيين، وهم عادةً أول من يتم إبلاغه بقرارات الاستدعاء الوشيكة. وكان التعامل مع استدعاء الاحتياطي فوضوياً وتجلى ذلك في تأخر "ذيل" الدعم اللوجيستي ما بين 24-48 ساعة بعد نشر قوات الاحتياطي.

وجاء قرار الاستدعاء في 21 يوليو ليعطي إشارة واضحة لرجال الإستراتيجية العسكرية في البنتاجون على أن الحرب الإسرائيلية لم تكن تتقدم بصورة جيدة. وهو ما يساعد أيضا في تفسير وصول قوات الاحتياط الإسرائيلية إلى الجبهة بدون المعدات الضرورية ودون خطة قتالية محكمة وبدون الذخائر اللازمة لمواصلة القتال. (ظلت إسرائيل تحاول بمشقة، على مدار الحرب، توفير دعم كاف لقواتها الاحتياطية: فالطعام والذخيرة، وحتى إمدادات المياه، كانت تصل بعد 24-48 ساعة كاملة من وصول أي من وحدات الاحتياط إلى مناطق الانتشار الشمالية المخصصة لها)

لمس المراقبون العسكريون آثار ذلك على الفور. فقال قائد عسكري أمريكي كبير سابق: "بدت القوات الإسرائيلية غير مستعدة ورخوة وفاقدة للروح المعنوية". وأضاف: "لم يكن هذا جيش الدفاع الإسرائيلي المزهو بنفسه الذي رأيناه في الحروب السابقة".

وتماشياً مع خطة «أولمرت» السياسية، أخذ هدف الجيش الإسرائيلي، المتمثل في القضاء الكامل على حزب الله، يتراجع بصورة ملحوظة. ففي اليوم التالي لاستدعاء الاحتياطي، كان العميد «أيدو نيهوشتان»، عضو قيادة الأركان في إسرائيل، يقول: "هناك خط واحد يقع بين أهدافنا العسكرية وأهدافنا السياسية"، ويضيف: "الهدف ليس بالضرورة تدمير كل صاروخ لدى حزب الله. ولكن ما علينا فعله هو الإطاحة بالمنطق العسكري لحزب الله. وأعتقد أن هذا الهدف بحاجة إلى ما هو أكثر من بضعة أيام".

كانت هذه، قطعاً، طريقة عجيبة لعرض إستراتيجية عسكرية: شن حرب من أجل "الإطاحة بالمنطق العسكري" للعدو. وكان لتصريح «نيهوشتان» أثر مخيف على قادة الجيش الإسرائيلي الميدانيين الذين حيرهم التساؤل عن ماهية أهداف الحرب على وجه التحديد. لكن بعض قادة الجيش الإسرائيلي الآخرين كانوا متفائلين، فبينما فشل سلاح الجو الإسرائيلي في إيقاف هجمات صواريخ حزب الله على المدن الإسرائيلية، فإن عدد الصورايخ الذي أطلق على إسرائيل ما بين 19-21 يوليو كان أقل من أي وقت آخر (كان عدد الصواريخ التي أُطلقت يوم 19 يوليو قليلا جدا، وربما لم يتعد العدد 40 صاروخاً في 20 يوليو و 50 صاروخا في 21 يوليو).

شهد يوم 22 يوليو أيضاً أول رد فعل عسكري للولايات المتحدة تجاه الحرب. فقد تلقى البيت الأبيض، في ساعة متأخرة من نهار 21 يوليو، طلباً من «أولمرت» والجيش الإسرائيلي للتزود بكميات كبيرة من الذخائر الموجهة بدقة - وهو دليل آخر ينم عن فشل سلاح الجو الإسرائيلي في مهمته للنيل من قدرات حزب الله العسكرية خلال الجولات الافتتاحية للحرب.

تمت الموافقة على الطلب بسرعة، وبدأ شحن الذخائر إلى إسرائيل في صباح يوم 22 يوليو. وقد أثارت هذه الشحنة استياء مسئولين كبار في البنتاجون حيث كانت تعني أن إسرائيل قد استنفذت معظم ذخيرتها في العشرة أيام الأولى للحرب - وهو إسراف هائل في استهداف المواقع أوحي بأن إسرائيل قد تخلت عن القصف التكتيكي لمقدرات حزب الله وأنها تتأهب للانقضاض على ما تبقى من بنية لبنان التحتية، وهذه إستراتيجية لم تنجح أثناء الحرب العالمية الثانية حينما دمرت الولايات المتحدة وبريطانيا 66 مركزاً من مراكز الكثافة السكانية الأساسية في ألمانيا دون أي تأثير يذكر سواء على معنويات ألمانيا أو قدراتها العسكرية.

ورغم أن التبرم في البنتاجون كان ضئيلا، فقد لاحظ أحد الضباط المتقاعدين أن شحنة الذخائر الأمريكية إلى إسرائيل تعيد إلى الذاكرة طلبا مشابها تقدمت به إسرائيل في عام 1973 - في ذروة حرب «يوم كيبور» {حرب أكتوبر}. قال هذا الضابط ساعتها: "هذا يعني شيئاً واحداً فقط هو أن ظهرهم للحائط".

وبالرغم من الشكوك العميقة التي كانت تساور كبار القادة العسكريين الأمريكيين في كفاءة الرد الإسرائيلي (وهي شكوك كانت، برغم عدم الإفصاح عنها علنا، عميقة ومؤثرة - بل امتدت لتصل إلى أعلى مستويات سلاح الجو الأمريكي) فإن هؤلاء القادة أبقوا أرائهم بعيداً عن الرأي العام. وكان السبب وجيها: فقد أدى انتقاد إسرائيل لطلبها شحنة أسلحة أثناء حرب 1973 إلى استقالة الجنرال «جورج براون»، رئيس قيادة الأركان المشتركة في ذلك الحين. و كان الذي أثار سخط «براون» حينذاك هو إرسال أسلحة وذخائر أمريكية إلى إسرائيل في وقت كان فيه القادة العسكريون الأمريكيون في ڤيتنام يحتجون على نقص الإمدادات في حربهم في جنوب شرق آسيا.

رئيس قيادة الأركان المشتركة الحالي «بيتر باس»، الذي بقي صامتاً بصورة ملحوظة أثناء الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وعى درس التاريخ جيداً، "فأدى التحية العسكرية" {أي أطاع أوامر القيادة السياسية} والتزم الصمت. لكن قيادة الأركان المشتركة وكبار القادة العسكريين لم يكونوا المسئولين الأمريكيين الوحيدين الذين أقلقهم الأداء الإسرائيلي. فبينما كانت المؤن الأمريكية تحلق في طريقها إلى إسرائيل (عبر مطار بريستويك في اسكتلندا)، كان مسئولو الاستخبارات يجرون تقييما أوليا لحصيلة الأيام الأولى للحرب. وأشار واحد منهم إلى استمرار قناة «المنار» في بث برامجها من بيروت برغم الهجوم الجوي الإسرائيلي المتواصل وبرغم تدمير سلاح الجو الإسرائيلي لأبراج بث الشبكات التليفزيونية الرئيسية الأخرى بلبنان. (وسيبقى الأمر على هذه الحال على مدار الحرب، فقناة «المنار» لم تتوقف أبداً عن البث) فأي فعالية كانت إذن للحملة الجوية الإسرائيلية إذا كانت قد عجزت حتى عن القضاء على بث قناة تليفزيونية؟

دبابة ميركافا إسرائيلية محطمة في جنوب لبنان
كان الغرض من استدعاء الاحتياطي الإسرائيلي هو تعزيز القوات التي كانت تقاتل بالفعل في جنوب لبنان وزيادة ثقل الهجوم البري. وفي 22 يوليو، خاضت وحدات حزب الله من لواء «نصر» قتالا من شارع إلى شارع ضد الجيش الإسرائيلي في بلدة «مارون الراس». وبينما ادعى الجيش الإسرائيلي في نهاية اليوم الاستيلاء على البلدة، لم تكن البلدة قد سقطت. لم يتزحزح رجال حزب الله عن مواقعهم رغم ضراوة القتال. فكثير من جنود لواء «نصر» كانوا قد قضوا أياما عديدة في انتظار الهجوم الإسرائيلي، وبفضل قدرة حزب الله على اعتراض الاتصالات الجيش الإسرائيلي العسكرية وجد الجنود الإسرائيليون أنفسهم يناطحون وحدات تحتمي بمواقع محصنة جيداً.

ظلت سرايا الجيش الإسرائيلي عاجزة عن تطويق المدافعين حيث ووجهت بضربات مضادة من الناحية الغربية للمدينة. وقامت وحدات خاصة للمطاردة والقنص، يضم كل منها ثلاثة رجال، تابعة للواء «نصر» بتدمير عدة آليات مدرعة إسرائيلية أثناء القتال مستخدمة صواريخ خفيفة مضادة للدبابات يدوية الصنع. قال الملازم الثاني «أيلاي تالمور» وعلامات الإرهاق بادية عليه: "كنا نعرف أنهم سيفعلون هذا. فهم يقولون هذه أرضنا ونحن كنا سنفعل الشيء نفسه لو دخل أي أحد إلى بلدنا".

وبينما ظل الجيش الإسرائيلي يؤكد أن توغلاته ستبقى "محدودة المدى" على الرغم من استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط، بدأت كتائب من الجيش الإسرائيلي في التشكل جنوب الحدود. أدلى «آڤي بازنر»، وهو متحدث رفيع المستوى باسم الحكومة الإسرائيلية، بتصريح قال فيه: "نحن لا نستعد لغزو لبنان". ووصف الجيش الإسرائيلي حينها «مارون الراس» بأنها "أول موطئ قدم" له في جنوب لبنان. وقال «بازنر»: إن تضافر القوات الجوية والمدفعية والقوات البرية سوف يدفع حزب الله للتقهقر من دون أن نصل إلى مرحلة يكون علينا فيها أن نغزو ونحتل".

هكذا تم التمييز بين "دفع" قوة إلى التراجع وبين غزو واحتلال بلدة، وكانت هذه إشارة واضحة أخرى استنتج منها الخبراء العسكريون الأمريكيون أن الجيش الإسرائيلي يستطيع الدخول إلى أي بلدة ولكنه لا يستطيع احتلالها. وقد شبّه ضابط أمريكي كبير، ملم بالتاريخ العسكري الأمريكي، هجمات الجيش الإسرائيلي الخاطفة في جنوب لبنان بالهجوم الدموي لـ «روبرت إي لي» على مواقع الاتحاد في «جيتيسبرج» ببنسلفانيا أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، إذ قال أحد مساعدي «لي» حينذاك: "ليس في الوصول إلى هناك أي مشكلة، إنما المشكلة هي في البقاء هناك".

وتؤكد تقارير قادة حزب الله العسكريين الصادرة بعد المعركة أن قوات الجيش الإسرائيلي لم تتمكن أبداً من التأمين الكامل للمنطقة الحدودية وأن «مارون الراس» لم تسقط بكاملها في أي وقت من الأوقات. ولم يشعر حزب الله أبداً بالحاجة إلى استدعاء احتياطيه كما فعلت إسرائيل. يقول خبير عسكري بالمنطقة: "قاتل حزب الله الحرب كلها بلواء واحد مكون من 3000 جندي فقط"، ويضيف: "لواء «نصر» خاض المعركة كلها دون أن يشعر حزب الله في أي لحظة بالحاجة إلى تعزيزه".

أبرزت تقارير لبنانية هذه النقطة. فقد اكتشف القادة العسكريون لحزب الله، لفرط دهشتهم، أن الجنود الإسرائيليين يفتقرون للنظام والانضباط. وحسب مراقبين لبنانيين كان لواء «جولاني» هو الوحدة الإسرائيلية الوحيدة التي كان أدائها يرقى إلى المقاييس. كان الجيش الإسرائيلي "خليطا متنافرا (a motley assortment)" حسب مسئول لديه معرفة عميقة بالتعبيرات الشعبية الأمريكية وأضاف: "لكن هذا ما يحدث عندما تُمضي أربعة عقود في إطلاق الأعيرة المطاطية على النساء والأطفال في الضفة الغربية وغزة".

انزعج قادة الجيش الإسرائيلي أيضاً من أداء قواتهم ولاحظوا الافتقار الصارخ إلى الانضباط حتى بين أفضل الجنود تدريباً. أما قوات الاحتياط فكانت أسوأ مما جعل قادة الجيش الإسرائيلي يترددون في إدخالها إلى المعركة.

ما إن جاء يوم 25 يوليو، حتى كانت إستراتيجية «أولمرت» - للتراجع عن الهدف المعلن بتدمير حزب الله - تُنَفَذ على قدم وساق. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي «عمير بيريتس» هو من حمل هذه الأنباء حيث قال يومئذ إن هدف إسرائيل الراهن هو إنشاء "حزام أمني" في جنوب لبنان. وترافقت كلماته هذه مع التهديد: "إذا لم تأتِ قوة متعددة الجنسيات للسيطرة على الحدود فسنستمر في السيطرة عليها بالسلاح ضد كل من يقترب من منطقة الحزام الأمني المحددة. وسيعرفون عندئذ أنهم سيتعرضون للأذى".

اختفى إذن، فجأةً، إدعاء إسرائيل بأنها ستدمر حزب الله. واختفى أيضاً إدعاؤها بأنها ستقبل فقط بقوات من الناتو لحفظ السلام على الحدود. في يوم 25 يوليو أيضا صرحت إسرائيل أن «أبو جعفر»، القائد في "القطاع الأوسط" لحزب الله على الحدود اللبنانية، قُتل "في تبادل لإطلاق النار" مع جنود إسرائيليين قرب قرية «مارون الراس» الحدودية - والتي لم تكن قد سقطت بعد. وكان ذلك التصريح عارياً من الصحة حيث أدلى «أبو جعفر» بأحاديث علنية بعد انتهاء الحرب.

في أعقاب ذلك، قبل أن ينقضي يوم 25 يوليو، وأثناء زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية «كونداليزا رايس» إلى القدس، بدأ الجيش الإسرائيلي في القتال لفتح الطريق إلى «بنت جبيل» مطلقاً عليها "عاصمة إرهاب حزب الله". و استمر القتال للسيطرة على «بنت جبيل» تسعة أيام، ولكنها بقيت حتى نهاية الحرب في أيدي حزب الله. بعد هذه الأيام التسعة كان الدمار قد حاق بالمدينة في حين استطاع مقاتلو حزب الله النجاة من غارات القصف الجوي والمدفعي المتكررة بالانسحاب إلى مخابئهم أثناء اشتداد القصف الجوي والمدفعي والظهور فقط كلما حاول جنود الجيش الإسرائيلي، في عمليات المتابعة التالية للقصف، السيطرة على المدينة.

تُذَكِّر تكتيكات حزب الله بتلك التي اتبعها جيش ڤيتنام الشمالي في الأيام الأولى لحرب ڤيتنام - حينما أمر قادة جيش ڤيتنام الشمالي جنودهم بضرورة "الاحتماء حتى ينتهي القصف بالقنابل" ثم التحرك لقتال الأمريكيين في وحدات صغيرة. يصف قائد عسكري ڤيتنامي هذه التكتيكات فيقول: "يجب أن تجذبوهم جذبا من أحزمتهم".

وفي 24 يوليو قامت إسرائيل، في إشارة أخرى للفشل المحدق بها في لبنان، بإطلاق الدفعة الأولى من آلاف القنابل العنقودية ضد ما أسمته "مواقع مدفعية حزب الله" في جنوب لبنان. القنابل العنقودية سلاح فعال رغم وحشيته، والبلدان التي تستخدمها ومنها كل أعضاء حلف شمال الأطلنطي (وكذلك روسيا والصين)، رفضت باستمرار الدخول في اتفاقية دولية تحرم استخدامها.

لكن أكثر الدول تحلياً بالمسئولية هي تلك التي تزود ذخائرها بصمامتين للتفجير لتقلل من معدل عدم انفجار"القنابل الصغيرة" بعد إطلاقها. وأثناء إدارة الرئيس الأميركي «بيل كلينتون» وافق وزير الدفاع «ويليام كوهين» على تزويد القنابل العنقودية الأمريكية بصمامتين للتفجير والاستغناء التدريجي عما يوجد في المخزون الأمريكي من ذخائر ذات "معدل عال في عدم الانفجار"، وكان الغرض من ذلك هو الحد من معدل عدم انفجار هذه الذخائر من 14% (البعض يقدره بأكثر من هذا) إلى أقل من 3% (وإن كان البعض يقدره بأقل من هذا).

وبالرغم من أن التحقيقات في استخدام إسرائيل لهذه الذخائر لم تكتمل بعد، فمن الواضح الآن أن الجيش الإسرائيلي استخدم ذخائر ذات صمامة تفجير واحدة. وتشير تقارير حديثة في الصحافة الإسرائيلية إلى أن ضباط المدفعية أغرقوا عشرات القرى اللبنانية بالقنابل العنقودية في أقرب ما يكون لتعريف الاستخدام "العشوائي" للقوة النارية.

ومن المرجح أن تكون الذخائر الإسرائيلية {من القنابل العنقودية} قد تم شراؤها من المخزون الأمريكي المتقادم الذي لم يزود بصمامتين، وهو ما يجعل الولايات المتحدة متواطئة في هذا الاستهداف العشوائي {للقرى اللبنانية}. يتسق هذا الاستنتاج مع التسلسل الزمني لإعادة إمداد إسرائيل بالذخائر في 22 يوليو. فمن المرجح جدا أن يكون الجيش الإسرائيلي قد تمكن [خلال يومين] من تفريغ شحنات هذه الذخائر ونشرها بالسرعة الكافية لخلق أزمة القنابل العنقودية في لبنان، التي بدأت منذ 24 يوليو ومازالت البلاد تعاني من بلائها حتى الآن.

جنود إسرائيليون مصابون في جنوب لبنان
وفي يوم 26 يوليو أقر المسئولون الإسرائيليون أن ال 24 ساعة الماضية في قتالهم من أجل «بنت جبيل» كانت بمثابة "أصعب يوم قتال في جنوب لبنان". وقرر قادة الجيش الإسرائيلي، بعد أن فشلوا في الاستيلاء على البلدة من حزب الله في الصباح، إرسال لواء النخبة «جولاني» للقتال هناك. وفي خلال ساعتين من بعد الظهيرة كان تسعة من جنود هذا اللواء قد قتلوا كما أصيب 22 منهم. وفي ساعة متأخرة عصر ذلك اليوم، أرسل الجيش الإسرائيلي لواء النخبة من قواته المظلية إلى «مارون الراس» حيث دخل القتال مع عناصر لواء «نصر» يومه الثالث.

وفي يوم 27 يوليو وافقت الحكومة الإسرائيلية، كرد فعل لفشل وحداتها في السيطرة على هاتين المدينتين، على استدعاء ثلاث فرق أخرى من الاحتياطي - أي 15000 جندي بالتمام والكمال. على أنه بحلول يوم 28 يوليو أصبح جلياً مدى فداحة فشل سلاح الجو الإسرائيلي في محاولاته لإيقاف هجمات حزب الله الصاروخية، حيث استخدم حزب الله في ذلك اليوم صاروخاً جديداً يدعى «خيبر 1» أصاب به مدينة «العفولة».

وفي يوم 28 يوليو تداعت أنباء الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الذريع إلى الشعب الإسرائيلي. ففي ذلك اليوم سرّب مسئولون في الموساد معلومات تفيد أن حزب الله، في تقديرهم، لم يعان من خسائر ملموسة في قدراته العسكرية وأنه قد يكون باستطاعته الاستمرار في القتال لعدة شهور قادمة. لكن الجيش الإسرائيلي رفض هذه التقديرات وادعى أن حزب الله قد تضرر بشدة. وأظهر هذا بدايات الشقاق داخل فريق الاستخبارات الإسرائيلية.

وقد بدأ بعض الخبراء الأمريكيون أيضاً في التشكك في إستراتيجية إسرائيل وقدراتها. وقامت مؤسسة «بروكينجز» المحافظة بنشر تعليق كتبه «فيليب هـ. جوردون» (الذي ألقى بمسئولية الأزمة على حزب الله) قال فيه: "الموضوع ليس إن كان حزب الله مسئولاً عن الأزمة - فهو المسئول - وليس إذا كان من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها - فهذا حقها - ولكن الموضوع هو إذا ما كانت هذه الإستراتيجية بالتحديد [الحملة الجوية المتواصلة] ستنجح. لن تنجح. لن تجعل حزب الله عاجزاً لأنه، من المستحيل، ببساطة، أن تنجح حملة جوية في تدمير آلاف الصواريخ الصغيرة، المحمولة والمخبأة، والتي يسهل إعادة التزود بها."

عكس تعليق «جوردون» آراء عدد متزايد من القادة العسكريين الذين كانوا يتسابقون لنفض الغبار عن خططهم الجوية انتظاراً لصدور قرار من البيت الأبيض باستهداف المواقع النووية الإيرانية. يقول لنا خبير في شئون الشرق الأوسط على علاقة بمسئولين كبار في البنتاجون: "شاع فهمٌ خاطئ أن سلاح الجو الأمريكي كان مبتهجاً بالحرب الإسرائيلية على لبنان"، ويكمل: "لقد كانوا مذعورين. فهم يعرفون جيداً حدود قوتهم ويعرفون كيف يمكن إساءة استخدامها".

"لقد بدا لهم [أي لمسئولي سلاح الجو الأمريكي] أن إسرائيل ضربت بالقواعد عرض الحائط. فلم يكن ما فعلته إسرائيل جراحياً، ولا دقيقاً، وبالتأكيد لم يكن ذكياً. ليس لك أن تأمل في النصر لمجرد انك نجحت في تغطية بلد برداء من الحديد."

تُظهر الأرقام المجردة والقاسية للحرب مدى خطأ التفكير الذي استندت إليه حملة إسرائيل الجوية والبرية. فقد أخفى حزب الله ما يزيد على 18000 صاروخ في ترساناته قبل الحرب. وتم تحصين هذه المواقع ضد الغارات الجوية الإسرائيلية مما جعلها تنجو بسهولة من الحملة الجوية. وقد أجرى مسئولون في حزب الله قياساً للوقت الذي يمر ما بين لحظة إطلاق الصواريخ {على إسرائيل} واللحظة التي يتمكن فيها سلاح الجو الإسرائيلي من رصد مواقع الإطلاق وإرسال مقاتلات لتدمير منصات إطلاق الصواريخ المتحركة، فوجدوا أنه 90 ثانية. وقد تعلمت فرق إطلاق الصواريخ في حزب الله، عبر سنوات من التدريب الدؤوب، أن تخرج الصواريخ وتطلقها ثم تغطي منصاتها الصاروخية بأمان في أقل من 60 ثانية بما يجعل طائرات الجيش الإسرائيلي ومروحياته (التي تملك إسرائيل منها عددا أقل بكثير مما تدعيه) عاجزة عن وقف إطلاق صواريخ حزب الله المستمر على إسرائيل (يعلق أحد القادة العسكريين الأمريكيين فيقول: "ما يفصل بين إسرائيل وبين الكارثة الشاملة ثلاثة مروحيات تقريبا")

أطلق حزب الله ما يقرب من 4000 صاروخ على إسرائيل (الرقم الأكثر دقة، برغم عدم التيقن منه، هو 4180 صاروخ) ليقل مخزونه إلى 14000 صاروخ، وهو ما كان يكفي لمواصلة الحرب لثلاثة شهور أخرى على الأقل.

يضاف إلى ذلك، وهو الأمر الأعمق دلالة، أن مقاتلي حزب الله قد برهنوا على تفانيهم وانضباطهم، كما برهنوا، بقدرتهم على استخدام وسائل الاستخبارات لتحديد مواقع توغل قوات المشاة الإسرائيلية، على نديتهم لأفضل الوحدات المقاتلة الإسرائيلية. ففي بعض الحالات، هُزمت الوحدات الإسرائيلية في ساحة المعركة وأُجبرت على انسحابات مفاجئة أو اضطرت للاعتماد على الغطاء الجوي لإنقاذ عناصرها من خطر اكتساح حزب الله. وحتى قبيل انتهاء الحرب في يوم 9 أغسطس، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل 15 وإصابة 40 من جنود الاحتياط أثناء قتال في قرى «مرجعيون» و«الخيام» و«كلا». وهو معدل مذهل للخسائر بالنسبة إلى هذه المساحة البالغة الصغر من المناطق العمرانية.

دبابة ميركافا إسرائيلية محطمة في جنوب لبنان

دبابة ميركافا إسرائيلية محطمة في جنوب لبنان
كما استطاعت دفاعات حزب الله القوية أن تكلف المدرعات الإسرائيلية ثمناً باهظاً. فعندما وافقت إسرائيل أخيراً على وقف إطلاق النار وبدأت في انسحابها من منطقة الحدود كانت قد تركت خلفها أكثر من 40 آلية مدرعة، دُمرت كلها تقريباً باستخدام صواريخ «ساجر AT-3» المضادة للدروع و التي تم نشرها بحنكة. و«ساجر AT-3» هو الاسم الذي أطلقه حلف شمال الأطلنطي على الصواريخ الروسية الصنع من الجيل الثاني المسمى «9M14 ماليوتكا» - أو "الصغيرة" - والتي تحمل على عربات أو على ظهور المقاتلين وتُوجَّه بواسطة الأسلاك.

وقد أثبتت صواريخ «ساجر»، بمداها الذي يصل لثلاثة كيلومترات، نجاحها الكبير في إصابة الدبابات الإسرائيلية. الشيء الذي أصاب قائدي سلاح المدرعات الإسرائيلي بنوبات من الفزع، الجانب الأكبر منه بسبب أن صواريخ «ساجر» التي يستخدمها حزب الله هي من طراز قديم (تم تطويره ونشره في عام 1973) بينما الطراز الحديث منها أسهل في إخفائه ونشره، ويحمل رأساً حربياً أكبر. فإذا كان الجيش الإسرائيلي لم يستطع أن يحمي مدرعاته من صورايخ طراز 1973 "الجيل الثاني"، فلابد أن قواد الجيش الإسرائيلي يتساءلون الآن كيف يمكن لمدرعاتهم أن تحمي نفسها من طراز من الصواريخ أكثر حداثة و تطوراً و أشد فتكاً.

وقبيل تطبيق وقف إطلاق النار قررت المؤسسة السياسية الإسرائيلية القيام بإنزال مظليين إسرائيليين في مناطق رئيسية بمحاذاة نهر الليطاني. ويبدو أن هذا القرار أُتخذ لإقناع المجتمع الدولي أن قواعد الاشتباك للقوة التابعة للأمم المتحدة لابد وأن تمتد من الليطاني جنوباً. وما كان لإسرائيل أن تدعي لنفسها الحق في طلب كهذا إلا إذا كان بمقدورها القول، بمصداقية، أنها طهرت هذا الجزء من لبنان وحتى الليطاني {من قوات حزب الله}.

لتحقيق هذا الهدف، تم حمل عدد معتبر من القوات الإسرائيلية جواً إلى مناطق رئيسية جنوب الليطاني مباشرة. و كان يمكن لهذا القرار أن يؤدي لكارثة. فمعظم القوات الإسرائيلية التي حُملت جواً لهذه المناطق حاصرتها على الفور وحدات حزب الله وكان يمكن أن تسحقها على نحو حاسم لولا دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. وقد أثار هذا القرار السياسي غضب ضباط متقاعدين في الجيش الإسرائيلي واتهم أحدهم «أولمرت» بالزج بالجيش في ألاعيب سياسية ("spinning the military") - أي باستخدام الجيش لأغراض العلاقات العامة.

ربما كانت أعداد القتلى والجرحى هي أكثر الشواهد دلالة على الفشل العسكري الإسرائيلي. فإسرائيل تدعي الآن أنها قتلت حوالي 400-500 من مقاتلي حزب الله بينما كانت خسائرها أقل كثيراً. ولكن إجراء الحسابات بمزيد من الدقة يبين أن الخسائر في الأرواح في صفوف إسرائيل وحزب الله متساوية تقريباً. فمن المستحيل أن لا يقوم الشيعة (وحزب الله) بتشييع مشرف لشهدائهم، وإذا كان الأمر كذلك فالمسألة لا تعدو إحصاء عدد الجنازات. وقد كان عدد الجنازات التي أُقيمت لمقاتلي لمقاتلي حزب الله أقل من 180 جنازة وهو تقريباً نفس عدد القتلى على الجانب الإسرائيلي. يمكننا الآن أن ننقح العدد بالزيادة: فآخر معلوماتنا من لبنان تفيد أن العدد الدقيق لجنازات شهداء الشيعة في الجنوب كان 184 جنازة.

ولكن الانتصار الذي حققه حزب الله في القتال مع إسرائيل لا يمكن تقييمه إلا كنصر عسكري وسياسي حاسم أيا كان المقياس المستخدم، سواء كان عدد الصواريخ {التي أطلقت} أو العربات المدرعة {التي دمرت} أو أعداد الجرحى والقتلى {من الجانبين}. وحتى لو كان الأمر عكس ذلك (ومن الواضح أنه ليس كذلك) فإن مجمل الأثر الذي أسفرت عنه الحرب بين حزب الله وإسرائيل على مدار 34 يوماً في يوليو وأغسطس قد أحدث زلزالا سياسيا في المنطقة.

كانت الهزيمة العسكرية التي أنزلها حزب الله بإسرائيل حاسمة ولكن الهزيمة السياسية التي أنزلها بالولايات المتحدة - التي انحازت بلا جدال لإسرائيل أثناء الحرب ورفضت إيقافها - كانت هزيمة كارثية سيبقى لها أثرها الدائم على هيبة الولايات المتحدة في المنطقة.
____________________________
ألاستير كروك» و«مارك بيري» هما مديرا «منتدى النزاعات». «كروك» مسئول سابق في المخابرات البريطانية (MI6) ومستشار شئون الشرق الأوسط السابق لـ«خافيير سولانا»، الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي. أما «بيري» فهو محلل وكاتب متخصص في شئون العسكرية والاستخباراتية وشئون السياسية الخارجية ومؤلف لعدة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:
HOW HEZBOLLAH DEFEATED ISRAEL
PART 2: Winning the ground war

By Alastair Crooke and Mark Perry
(ترجمة: عمرو عبد العليم)

الجزء الأول: الانتصار في حرب المخابرات
الجزء الثالث: الحرب السياسية