٠٥ أكتوبر ٢٠٠٥

 

عن المناخ الفكري الذي نعيشه الآن (2)


4- "كان .. فعل ماضي"

فضلاً عن مدرستيْ "الخطيئة" و"السماح"، ستجد أيضاً من يتصورون أنهم أكثر ذكاءً. هؤلاء لا يُورِّطون أنفسهم في الدفاع عن السجل الأمريكي، بل يعترفون لك عن طِيب خاطر بأن السجل أسود. يقولون لك: صحيح أن الولايات المتحدة كانت القوة التي دعمت وساندت كثيراً من الأنظمة القمعية الفاسدة سواء عندنا أو عند غيرنا .. لكن "كل اللي عملته أمريكا في الماضي كوم واللي بتعمله دلوقتي كوم تاني". هؤلاء الأذكياء يدعوننا إلى عدم التقليب في الدفاتر القديمة، أن نعيش حقائق العصر، أن نرى أمريكا التي تابت وأنابت وعرفت أن الديموقراطية حق. أمريكا التي اكتشفت، بعد 11 سبتمبر 2001، أن الأنظمة القمعية ليست سوى معامل لتفريخ الإرهابيين، مستنبت خصب للأصولية الإسلامية، أو ’الفاشية الإسلامية‘ كما يسمونها الآن، والتي هي الخطر الأكبر على الحضارة.. ’البُعبُع‘ الأخطبوطي الهائل الذي يُوشك أن يُجهز على الأخضر واليابس في عالمنا ويُدمر حياتنا الرغدة السعيدة!

لماذا لا نضع أيدينا، إذن، في الأيدي الأمريكية الناعمة النظيفة، التي تابت وأنابت، ونبدأ معها صفحة جديدة؟

سنأخذ بنصيحة أصدقائنا الأذكياء. لن نُقلِّب الآن في الدفاتر القديمة.


5- "خلينا في الحاضر وجماله"

حين نأخذ في تقليب الدفاتر الجديدة تتبدى أمامنا صورتان:
  • صورة مستمدة من المشهد الإعلامي العالمي، ولا شك أن الذي يحتل مكان الصدارة في هذه الصورة هو الحرب الدائرة بين الإسلام ’الراديكالي‘ – الخطر الأكبر – والولايات المتحدة – القوة الأعظم: الصراع بين الجنرال «بن لادن» والجنرال «جورج دبليو بوش».

    وهذه الصورة تتتابع أمام أعيننا ليل نهار بإلحاح يُبهر أنفاسنا ويُدير رؤوسنا حتى لننسى، في أغلب الأحيان، أن أجهزة الإعلام هذه يديرها بشر مثلنا.. أناس معينون لهم رؤية معينة ومصالح معينة تتحكم في ما يقدمونه لنا، فنتوهم أن هذا ’الواقع‘ المجتزأ، بل ’المصنوع‘ في كثير من الأحيان، هو الواقع الحقيقي بكل عمقه وخفاياه وجوانبه وأبعاده.


  • وصورة أخرى مستمدة من حياة الناس أنفسهم، على امتداد العالم كله، وهي صورة بعيدة، إلا في النادر، عن دائرة الأضواء المبهرة، لا يهتم بها سوى قلة قليلة من الدارسين والمفكرين الصارخين في البرية، الذين يحاولون أن يحافظوا – بشق الأنفس – على تقاليد ’الصدق‘ و’الأمانة الفكرية‘ التي تُوشك أن تُجهز عليها مطحنة البشر والقيم، الدائرة الآن بأقصى سرعة.

    تتبدى هذه الصورة أحياناً في انفجارات تشهدها مناطق متفرقة من العالم، لكن دويها يظل مكتوماً، بعيداً عن دائرة الضوء، لأن السادة الذين يحكمون المشهد الإعلامي و يضبطون إيقاعه لا يُريدون لنا أن نراها، بل ربما لا يريدون أن يروها هم أيضاً.

الصورة الأولى نعرفها جميعاً، نراها ليل نهار، فماذا تقول لنا الصورةُ الثانية المحجوبة عن دائرة الضوء؟

تقول لنا الصورة الثانية: إن أكثر من مليار من البشر ’يعيشون‘ الآن في ’عشوائيات‘؛ في مناطق حضرية قذرة تكاد تكون محرومة تماماً من المياه الصالحة للشرب ومن الكهرباء والصرف الصحي، مناطق لا تكاد تعرف المرافق والخدمات والطرق الممهدة، "مقالب للزبالة" يختلط فيها البشر بالفضلات، وإن هذه ’العشوائيات‘ تزداد اتساعاً على مر السنين، وإن سكانها ليس لهم مورد رزق ثابت، فهم ’يعملون‘ – بلغة الاقتصاد – فيما يُسمى بالقطاع ’غير الرسمي‘ أو ’غير المُنظم‘.. "يعني أرزقية بيلقّطوا عيشهم"، متعطلين أو أشباه متعطلين: فواعلية.. شيالين.. بياعين سريحة.. مسّاحين جزم.. خدَّامين في البيوت.. متسولين.. بغايا.. قوادين.. لصوص.. الخ، يُحاولون باستماتة الاستمرار في البقاء ويُعامَلون كـ ’حُثالة بشرية‘ فائضة عن الحاجة ولا لزوم لها.

ويُشكِّل سكان العشوائيات هؤلاء "نسبة مذهلة تبلغ 78.2% من السكان الحضريين في أقل البلدان نمواً، وتتجاوز ثُلث مجموع السكان الحضريين في العالم كله". [إحصائيات عام 2003]

تقول لنا الصورة الثانية أيضاً إن هؤلاء تنتشر بينهم، فضلاً عن الأصولية الدينية في بعض المناطق، عقائد وطقوس دينية لم تكن مألوفة، أو على الأقل لم تكن واسعة الانتشار، من قبل، عقائد تمتزج فيها الديانات التقليدية بجرعات قوية من الإيمان بالسحر، ويُشكِّل انتظارُ ’المعجزة‘ والتطلعُ إلى ’الخلاص‘ عمودها الفقري.

وكل هذا الكلام موثَّق في دراسة تعتمد على آخر الوثائق والمسوح الميدانية سواء التي أجراها باحثون أفراد أو التي أجرتها وكالات متخصصة تابعة للأمم المتحدة.(1)

تقول لنا الصورة الثانية أيضاً إن عالمنا الآن يضم مليارين من البشر لم تدخل الكهرباء بيوتهم، ومليار ونصف مليار إنسان لا يحصلون على مياه صالحة للشرب، و800 مليون يعانون من أمراض سوء التغذية، ومليار أُمي لا يزالون محرومين من معرفة القراءة والكتابة في قريتنا العالمية السعيدة.(2)

تقول لنا الصورة الثانية أيضاً إن نصف البشر، في عالمنا هذا الذي محونا فيه المسافات وقهرنا الزمن، لم يستخدموا التليفون ولو مرة واحدة طيلة حياتهم، ويعيشون على دخل يقل عن دولارين في اليوم الواحد، وإن ستة آلاف طفل يموتون في العالم يومياً بالإسهال نتيجة لعدم حصول أسرهم على مياه شرب نظيفة.(3)

في تفسير هذه الصورة، يقول لنا «جون بلجر»، الصحفي والسينمائي الاسترالي الشهير: "في هذا العالم، الذي لا يراه مُعظمنا في الشمال العالمي، أَجْبَرَ نظامٌ محكمٌ ودقيق للنهب أكثرَ من تسعين بلداً على الانصياع لبرامج ’التصحيح الهيكلي Strutural Adjusment‘ منذ الثمانينيات، مما أدى إلى تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء على نحو لم يسبق له مثيل من قبل. وهذا هو ما يُطلق عليه اسم "بناء الدولة" و"الحكم الرشيد" من قِبَل ’الرُباعي‘ المُسيطر على منظمة التجارة العالمية (الولايات المتحدة وأوروبا وكندا واليابان) و’ثُلاثي‘ واشنطن (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية) وهما اللذان يتحكمان حتى في أدق جوانب السياسات الحكومية للبلدان النامية. وقوة هؤلاء مستمدة، إلى حد بعيد، من ديون غير قابلة للسداد تُجْبِر أفقر بلدان العالم على دفع مائة مليون دولار يومياً إلى دائنيها الغربيين. والنتيجة هي عالم تتحكَّم فيه نُخبة، يقل عدد أفرادها عن مليار شخص [أي أقل من سُدس سكان العالم]، في ثمانين في المائة [80%] من ثروة البشرية".(4)

وهذا الذي يقوله «جون بلجر» تُؤكده دراسة «مايك ديفس Mike Davis»، التي سبقت الإشارة إليها، حيث تكشف الدراسة عن الترابط الوثيق بين مراحل تطبيق السياسات والبرامج المُملاة من المؤسسات المالية الدولية والانتشار المتزايد لعشوائيات الفقر في مناطق شاسعة من العالم.

يقول «مايك ديفس»: ".. في أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا، [كان] النمو الحضري غير المصحوب بالنمو الاقتصادي راجعاً، على نحوٍ أوضح، إلى الوضع السياسي العالمي – إلى أزمة الديون في أواخر السبعينات وما لحقها من إعادة هيكلة لاقتصاديات العالم الثالث في الثمانينات بقيادة صندوق النقد الدولي".

وتقول دراسة لصندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسف): "لقد أعطى مئات الآلاف من أطفال العالم النامي حياتهم ثمناً لسداد ديون بلادهم".(5)

تقول لنا الصورة الثانية: إن عالمنا يضم الآن 100 مليون طفل مشرَّد يهيمون على وجوههم بلا مأوى بعد أن عجزت أسرهم عن إعالتهم.

تقول لنا: إن الشُرطة البرازيلية قتلت، في شوارع مدينة ريو وحدها، 3937 طفلاً مُشرَّداً بإطلاق النار عليهم خلال الفترة بين عامي 1987 و2000.(6)

تقول لنا: إن الأغنياء في هذه البلدان التي تكتسحها عشوائيات الفقر والرعب، يعيشون الآن في مناطق معزولة ومُسَوَّرة تتولى حراستها قوات مسلحة توفرها شركات أمنية خاصة. "فحرَّاس الأمن الخاصون لا غنى عنهم، وأبناء العائلات الغنية لا يستطيعون الذهاب إلى المدارس دون حراسة خوفاً من الاختطاف، والمشاريع يجب أن تدفع أموالاً للحماية، والنساء لا يستطعن ارتداء حليهن في الشوارع، ورياضات الجري والدراجات مستحيلة، وقيادة سيارتك الخاصة أو استقلال سيارة أجرة معناه المخاطرة، لكن المواصلات العامة لا يُمكن التفكير فيها، وهكذا".(7)

ويتساءل الكاتب الفرنسي «إنيازيو رامونيه»: "هل يُمكن أن يستمر هذا الوضع؟" ويُجيب: "هذا أمرٌ بعيد الاحتمال. لاشك أن نضوب معين الماركسية كمحرك دولي للتمرد الاجتماعي هو السبب الذي يجعل العالم يمر الآن بما يُشبه فترة الانتقال بين موجتين من الثورات السياسية. ففي الوقت الذي أصبحت فيه المظالم أكثر فداحة من أي وقت مضى، نُلاحظ أن أشكالاً أُخرى للعنف قد بلغت الآن بالفعل ذرىً غير مسبوقة، ومن ذلك بوجه خاص عُنف الفقراء ضد الفقراء وأشكال بدائية معينة للتمرد تُعبر عن نفسها في جنوح المراهقين والإجرام وافتقاد الأمن، وتتخذ في كل مكان تقريباً ... سمات حرب اجتماعية حقيقية".(8)

اصبروا عليَّ قليلاً لأستكمل ملمحاً آخر في هذه الصورة الثانية المحجوبة عن دائرة الضوء.

تقول لنا هذه الصورة الثانية إن هذا الاتساع المُتزايد للهوة بين الفقراء والأغنياء لا يقتصر على البلدان الفقيرة وحدها، بل يمتد ليشمل بلدان العالم المتقدمة مع انهيار ’دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State‘ تحت وطأة السياسات الليبرالية الجديدة، بما يقترن بها من تراجُع في الدور الاجتماعي للدولة واستشراء للبطالة، وتدهور في الخدمات العامة. بل إن مظاهر الفقر المتزايد هذه تمتد لتصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية – بجلالة قدرها – في عقر دارها، "وخاصة حين لا يعود في وسع الطبقات الوسطى أن تعتمد على المنافع الاجتماعية التي كانت تُقدَّم ذات يوم دون تكلفة مالية، مثل المدارس العامة الجيدة والأحياء الآمنة".(9)

تقول لنا: إن الفقر في الولايات المتحدة (طبعاً بالمقاييس الأمريكية) قد زاد بنسبة مُذهلة تبلغ 17% في ظل إدارة الرئيس «بوش» الإبن.

ويكشف تقرير الأمم المتحدة بشأن التنمية البشرية، الصادر عام 2005، أن معدَّل وفيات الأطفال الرُضَّع في الولايات المتحدة قد تصاعد بصورة مطَّردة على امتداد السنوات الخمس الماضية، حتى أصبحت تحتل الآن (وهي أغنى دول العالم) المركز الثالث والأربعين في معدَّلات النجاح في تخفيض وفيات الأطفال الرُضَّع، أي نفس المركز الذي تحتله ماليزيا. أكثر من ذلك يكشف التقرير أن نسبة وفيات الأطفال السود في عامهم الأول تبلغ ضعف نسبة الوفيات بين الأطفال البيض.(10)

هل تُصدقون أن الولايات المتحدة الأمريكية – القوة الأعظم – لا توفِّر لأطفالها جميعاً التطعيم المجَّاني ضد الجدري وشلل الأطفال، وأنها تحتل المركز العالمي الرابع والثمانين في التطعيم ضد الجدري والتاسع والثمانين في التطعيم ضد شلل الأطفال؟(11)

تقول لنا الصورة الثانية إنه: " وفقا لأرقام صناعة التأمين الأمريكية كلفت سرقة السيارات 8 مليارات دولار في عام 1995؛ وفي العام نفسه قام أصحاب السيارات بتركيب ما قيمته 675 مليون دولار من المعدات الإلكترونية في سياراتهم لمنع اللصوص. ومن المتوقع أن يصل هذا السوق إلى 1,3 مليار دولار بحلول عام 2000".(12)

تقول لنا أيضا إن سجون الولايات المتحدة تضم مليوني سجين، أعلى نسبة في العالم للسجناء مقارنة بعدد السكان!


6- ونروح لبعيد ليه؟

طيب ونروح لبعيد ليه؟ مصر تطبق منذ ثلاثين عاما سياسات "التصحيح الهيكلي" (ما يسمى بـ ’الإصلاح الاقتصادي‘) المملاة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومن ورائهما، أو من فوقهما، حكومة الولايات المتحدة. ماذا كانت النتيجة؟: ملايين العاطلين (يقدرهم البعض بستة ملايين)، ثمانية ملايين يسكنون العشوائيات، ملايين الشابات والشبان الذين تجاوزوا سن الزواج ولا يستطيعون أن يفتحوا بيوتاً لعجزهم المالي، تدهور صارخ في قيمة الجنيه المصري وتصاعد متواصل في تكاليف المعيشة مع التدَّني المستمر في القيمة الشرائية للأجور والمرتبات، انهيار متواصل في مستوى الخدمات العامة (الصحية والتعليمية، الخ.) يقابله ارتفاع فادح في أسعار الخدمات الخاصة بما يجعلها بمنأى عن متناول الكثير - إن لم يكن الغالبية – من أفراد الفئات المتوسطة التي تنحدر بوتيرة متزايدة إلى حضيض الفقر والحاجة. وتفاقمت آثار هذه الظواهر ووطأتها على المواطن البسيط، من جرَّاء الفساد الذي استشرى على نحو لم تشهده البلاد من قبل. وده كله برغم كل الكلام الكبير عن ’مراعاة البُعد الاجتماعي‘، وعن ’وصول الدعم لمستحقيه‘، ورغم إن أمريكا بتدِّينا – كما تقول – ’مساعدات‘ اتنين مليار دولار في السنة.

هنا قد يسألني سائل: لِمَ كل هذا الاستطراد؟ ما علاقة هذا الذي تقوله بأصحابك الذين يدعوننا إلى الإيمان بِصدْق نوايا الأمريكان، واغتنام فرصة ما يُسمى بـ ’تقاطع المصالح‘ بيننا وبينهم، لإقامة الديموقراطية في بلادنا؟


7- "وأرجع وأقول.."

أقول بالفم المليان: نحن في صميم الموضوع، فأي تجاهل لهذه الحقائق الجوهرية في واقعنا العالمي الراهن معناه أن نحرث في البحر.

الأوضاع دي بتقتل الديموقراطية على امتداد العالم كله، بتفرَّغها من محتواها .. بتخليها مجرد ديكور.. مجرد قشرة لامعة برَّاقة على جسم مريض عايش بفضل ’الأجهزة‘.

أنظروا إلى نسب المشاركين في الانتخابات في بلدان العالم كله وكيف تتناقص باطراد .. الفقراء لا يُصوتون .. المُحْبَطون لا يُصوتون .. المطحونون لا يُصوتون .. المُذلون والمُهانون لا يُصوتون .. الناس البسطاء تُحس الآن أن ما يُسمى بـ ’العملية الديموقراطية‘ لا يخصها، وأنها صراع بين نُخب يسعى كل منها بالفوز بأكبر ’هبرة‘ من الغنيمة.

يقول المؤرخ البريطاني الكبير «إريك هوبسباوم» في كتابه الهام عن تاريخ القرن العشرين ’Age of Extremes‘: "في أواخر القرن العشرين كانت أعداد كبيرة من المواطنين تنسحب من السياسة تاركة شئون الدولة للطبقة السياسية". ويضيف: "فمن ناحية، أدت الثروة وطابع الخصوصية الضيقة الذي اكتسبته الحياة ووسائل الترفيه؛ والتهافت الاستهلاكي، إلى جعل السياسة أقل أهمية وجاذبية. ومن ناحية أخرى، فإن الذين استقر في يقينهم أن الانتخابات لن تحقق لهم شيئاً يُذكر قد أداروا ظهورهم لها... ففيما بين عامي 1960 و1988 انخفضت نسبة العمال الذين يُصوتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بمقدار الثُلث... وقد أدى انهيار الأحزاب الجماهيرية المُنظَمَة، سواء منها القائمة على أساس طبقي أو إيديولوجي أوالاثنين معاً، إلى القضاء على المُحرك الاجتماعي الرئيسي الذي كان يُحوِّل الرجال والنساء إلى مواطنين نشطين سياسياً".(13)

ويقول الباحث الفرنسي «ألان جاريجو Alain Garrigou»: "منذ وقت طويل كان التَغَيُّب عن التصويت يتَّبِع نمطاً اجتماعياً واضحاً، حيث كانت الفئات الاجتماعية المتواضعة تُحجم عن المُشارَكَة في التصويت، بما يعني أن هذا التَغَيُّب كان امتداداً للتهميش الاجتماعي. وفي الولايات المتحدة، لخَّص عالم السياسة «والتر دين Walter Dean» الموقف بأن النصف الأعلى [الأغنى] من السكان يصوِّت بينما يَتغيَّب النصف الأدنى [الأفقر] عن التصويت".(14)

الرئيس «بوش» نجح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بنسبة لا تزيد كثيراً عن 30% من جُملة أصوات المُقيدين (وللعلم فإن الجداول الانتخابية هناك لا تضم سوى 71% من جُملة السكان الذين لهم حق التصويت).(15)

الانتخابات البريطانية البرلمانية الأخيرة شهدت أدنى نسبة تصويت، والانتخابات الرئاسية المصرية لم تزد نسبة المشاركين فيها عن 23% حسب أعلى التقديرات، ورغم كل الجهود التي بُذلت لحشد أكبر عدد من ’الجماهير‘ للمشاركة في أول ’انتخابات رئاسية ديموقراطية في مصر‘.

الديموقراطية كان تعريفها اللي اتعلمناه في المدارس "حُكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب" وأصبحت الآن حُكم النُخَب، بالقوة والخداع والقهر السافر أو غير السافر، من أجل مصالحها.

الديموقراطية أصبحت الآن علاقات عامة .. إعلانات تُذاع بين إعلانات الصابون والشامبو وحفاضات الأطفال والفوط الصحية ومعجون الأسنان والحاجات الساقعة، إعلانات يُصممها خُبراء في التسويق - يعملون مع اللي يدفع أكتر - ومهمتهم هي إجبار الناس بكل الوسائل على شراء ’السلعة‘ المعروضة. وده بيحصل في كل بلاد العالم ابتداء من أمريكا لأصغر دولة.

أنظروا إلى التصاعد المتزايد في اعتمادات الأمن الداخلي في ميزانيات الدول.. يمكن ده مؤشر واضح على حقيقة الأوضاع التي يعيشها العالم الآن.

ما تركزوش أبصاركم على صورة «بن لادن» لوحده، الغارقة الآن في بحر من الضوء، لأ.. بُصُّوا للصورة كاملة بكل أبعادها وبكل بشاعتها. «بن لادن» غارق في بحر من الضوء، وصورته يُبالغ فيها وتُضخَّم يوماً بعد يوم لأن أمريكا ’مزنوقة‘ في الصورة دي.. محتاجاها لكي تبرر أمام شعبها تكاليف الحرب العدوانية التي تخوضها الآن، جنودها الذين يُقتلون ويُصابون بعاهات بدنية ونفسية دائمة ومئات المليارات التي يدفعها دافع الضرائب الأمريكي، بينما أطفال الشعب الأمريكي نفسه لا يتوفر لهم – أو بالأصح للفقراء منهم – التطعيم المجاني ضد الجدري وشلل الأطفال!

مطلوب أن تبقى صورة «بن لادن» في دائرة الضوء أو في مركز دائرة الضوء لكي يوهمونا ويوهموا العالم كله بأن الخيار الوحيد الُمتاح لنا هو ’إما أمريكا أو بن لادن‘!

لا يا سادة .. أنتم الذين صنعتم الظروف التي أفرخت «بن لادن»، والتي ستُفرخ أهوالاً وعواصفَ أخرى لا يعلمها إلا الله، وأنتم الذين تحاولون بكل السُبُل الإبقاء على هذه الظروف وإدامتها لكي يكون القرن الواحد والعشرين قرناً أمريكياً.

لا يا سادة أنتم الذين تؤججون خطاب التعصب الديني لأنه يخدم مصالحكم، فنحن نعلم علم اليقين أن الحرب التي تخوضونها الآن لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدين، ولو أن غالبيتنا كانت مسيحية أو هندوسية أو بوذية لما تورعتم عن سحقنا من أجل السيطرة على البترول وفرض هيمنتكم على العالم دون منازع، وقد رأينا كيف عاملتم مواطنيكم من السود الفقراء أثناء إعصار كاترينا الذي كشف عورات ’القوة الأعظم‘ لكل ذي عينين.

لا يا سادة.. إن سياستكم تقتل الديموقراطية اليوم، كما قتلتها بالأمس، وعلى نطاق العالم كله.

أعود لأكرر ما قلته في مدونة أخرى منذ فترة قصيرة:
"إحنا عايزين ديمقراطية تخلي الناس يشاركوا في صنع القرار بحق وحقيق.. عايزين ديمقراطية حقيقية.. ديمقراطية تساعدنا على القضاء على البطالة والفساد.. ديمقراطية مختلفة.. أعمق في مضمونها بكتير من الديمقراطية الغربية. ومش ديمقراطية شكلية لا تودي ولا تجيب. وعلينا من خلال الممارسة كلنا، ليبراليين ويساريين وإسلاميين، أن نكتشف معاً الطريق"

هل هذه هي الديموقراطية التي تُريدها أمريكا لنا؟

أم أن الديموقراطية التي تُريدها لنا ليست إلا جزءاً لا يتجزأ من "إعادة رسم الخريطة"؟


والحديث متصــــل ..




(4) أنظر المرجع السابق



(7) سوزان جورج، تقرير لوجانو، الحفاظ على الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، ترجمة محمد مستجير مصطفى، كتاب سطور، 2001، ص 15
     Susan George, Lugano Report: On Preserving Capitalism in the Twenty-First Century, Pluto Press london, sterling, VA 1999


(9) سوزان جورج، تقرير لوجانو، ص 17



(12) سوزان جورج، تقرير لوجانو، ص 15