١٥ ديسمبر ٢٠٠٥

 

هل انتهى ’العُمر الافتراضي‘ للوطنية؟ (1)


هل أنت – وأرجو ألا تؤاخذني في السؤال- وطني؟ هل تؤمن، مثلا، بحق بلادك في رسم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن أي إملاءات خارجية؟ هل مازلت تؤمن بدور مهم ’للدولة الوطنية‘ في تحقيق تنمية تحشد ’الموارد الوطنية‘ وتُوظّف الطاقات المُعطلة لتوسيع ’السوق الوطنية‘، وتسعى إلى حماية ’الاقتصاد الوطني‘؟ هل أنت ممن يؤمنون بأن من حق أي بلد أن ينتهج سياسة خارجية نابعة من "الإرادة الوطنية"، وليست مفروضة بالقوة و"لوي الدراع" من قوى أجنبية ضاغطة؟ هل أنت أحد الذين يقولون بأن النظام الدولي الراهن يُهدر ’المصالح الوطنية‘ لكثير من شعوب العالم، ويصادر بالتالي حقها في ’التنمية الوطنية المستقلة‘، وفي انتهاج سياسات إنمائية تتجاوب مع ’احتياجاتها الوطنية‘ الخاصة؟

لو كنت - مثلي – واحداً من هؤلاء، فهناك من يطالبونك الآن بأن "تلحق نفسك" قبل فوات الأوان، وأن تُعيد النظر في أفكارك هذه. فقد ثبت لهم، بعد استقراء الماضي والحاضر وتقليب الأمر على جميع الوجوه، أن العالم قد تغير فوق ما يتصور السُذَّج أمثالنا، بينما كنا نحن – كالعادة – غائبين تماما عن الوعي. هؤلاء يقولون لنا إن ما نسميه بـ’الوطنية‘ أصبح الآن، بل ربما كان منذ البداية، فكرة "مضروبة" ومتخلفة ومضللة وضارة. من هنا، تراهم يؤكدون لك، بغضب الأستاذ اليائس من القدرات العقلية لتلميذه الخائب، أن وطنيتنا هذه كانت، ولا تزال، السبب الرئيسي وراء مُسلسل الفرص الضائعة والهزائم المتتالية.

لا غرابة، إذن، أن تجد منهم الآن، بعد أن نفذ صبرهم من جهلنا المزمن وخيبتنا الثقيلة، من "يفرش لك الملاية"، صارخا بالصوت الحياني، بينما يضع يداً فوق الخصر وإصبعاً من اليد الأخرى فوق الحاجب: "وطنية؟ وطنية إيه يا عُمَر؟! فوقوا بقى!! الناس المتنورين، في أمريكا وأوروبا والعالم المتقدم، بيسموا العبط ده دلوقتي شوڤينية chauvinism !".

* * *
لعلكم لاحظتم، مثلي، أن كلمة "الشوڤينية" هذه بدأت تتردد في الآونة الأخيرة في كلام بعض المدونين والمعلقين السياسيين في الصحافة والتلفزيون. صحيح أن هؤلاء يظلون حتى الآن أفراداً قلائل، لكن النغمة مُتصاعدة، والحماسة ظاهرة، والمثل يقول "الرجل العظيم أغلبية". ألا تبدأ حركات التنوير دائما بقلة من الرواد العظماء، أو حتى بفرد عظيم واحد يُنبِه قطيع الغافلين إلى الحقيقة الغائبة عن مداركهم القاصرة؟ أليس من الجائز أن يكون العالم قد تغير فعلا إلى الحد الذي يستوجب اختفاء ’الوطنية‘، ويجعل من ’السيادة الوطنية‘ و’المصالح الوطنية‘ مجرد أثر من آثار الماضي.. مجرد كلمات مُتْحَفِيَة جوفاء، مُنتهية الصلاحية، في عصر ’العولمة‘ و’القرية الكوكبية‘؟ أسئلة جديرة بالمناقشة دون أدنى شك. وأرجو أن يتسع المجال كي نناقشها معاً بقدر من التفصيل في مقال قادم.

الرئيس «بوش»، الذي حدثنا رجاله، قبل غزو العراق، عن الأحضان الدافئة والورود التي سَيُستَقْبَل بها "جيش التحرير الأمريكي"، والذي أعلن منذ عامين أو أكثر انتهاء العمليات الرئيسية في العراق ومن خلفه لافتة ضخمة تقول: "أنجزنا المهمة ! MISSION ACCOMPLISHED"، يُريد أن يُدخل في روع العالم اليوم، وسبحان مُغيِّر الأحوال، أن الخصوم الذين يواجههم لا يقلون ضراوةً وجبروتاً عن ألمانيا النازية، بجيوشها الجرارة التي اجتاحت أوروبا في لمح البصر، أو عن الجيش الإمبراطوري الياباني الذي أجهز، في غمضة عين، على الأسطول الأمريكي في «بيرل هاربور» واحتل، بسرعة الصاروخ، مناطق شاسعة من آسيا؛ أو عن الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يملك آلافاً من الرؤوس النووية الموجهة نحو أراضي الولايات المتحدة وقواتها المرابطة في أوروبا!

الرئيس «بوش» يريد أن يقنعنا بأنه يخوض هذه الحرب دفاعاً عن ’الحضارة‘ المهددة بخطر ’الإمبراطورية الشمولية‘؛ يخوضها لوجه الله والديمقراطية، مُنزهاً عن الغرض.. لا مطمع له، والعياذ بالله، في سيطرة عالمية ولا في بترول ولا في أي مغنم آخر كما يزعم المغرضون من أنصار ’نظرية المؤامرة‘. يقول لشعبه، الذي نفذ صبره، إن هذه الحرب، التي يخوضها ضد عدوٍ رهيب الجبروت، شاسعةُ الرقعة طويلةُ الأجل بالضرورة.. فاصبروا إن الله مع الصابرين!
لكن أي متابع جاد لما يجري على الساحة العالمية من أحداث لابد أن يتساءل هنا على الفور: كيف يمكن للوطنية أن تختفي من عالم يتأجج فيه صراع المصالح والقوميات؟ هل أصبح لدينا الآن، دون أن ندري، حكومة عالمية تُراعي، بالعدل والقسطاس، مصالح جميع شعوب العالم؟ هل قَبِل الكلُ عن رضا واقتناع، أو حتى على مضض، ما يسمى ’بالنظام الدولي الجديد‘، ولم يبق سوى شراذم وفلول قليلة، جاهلة ومتعصبة، تتشبث بالماضي بعناد وتصر على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء؟ كيف؟! والمنظرون الاستراتيجيون الأمريكان يتحدثون منذ انتهاء الحرب الباردة، عن ’صدام حضارات‘، أي عن صراع يشمل مليارات من البشر؟! كيف؟! و«ديك تشيني»، نائب الرئيس الأمريكي، يتحدث عن حرب يمكن أن تستغرق عقوداً عديدة، ويقول إن ما يحدث الآن في أفغانستان والعراق ليس سوى البداية؟! هل تحتاج الولايات المتحدة – أكبر قوة عسكرية في التاريخ – إلى عقود عديدة للقضاء على الأشلاء الباقية من هذه الفلول المتمردة؟! ألا يوحي ذلك بأن ’مسرح العمليات‘ في القتال الدائر الآن باسم "الحرب على الإرهاب" أوسع بكثير، في تصور النخبة الأمريكية الحاكمة، مما نراه الآن، وبأن هذه الحرب أكبر بكثير من أن تكون مجرد صراع مسلح بين القوة العسكرية الأمريكية ومنظمة «القاعدة» كما قد يتصور البعض منا؟ ألم يحدد الرئيس «بوش» مسرح عمليات ’الحرب على الإرهاب‘ حين قال منذ أسابيع قليلة إن الولايات المتحدة تُحارب أعداءً "يريدون إقامة إمبراطورية شُمولية تمتد من أسبانيا إلى إندونيسيا.. أعداءً لا يقلون ضراوةً عن أي عدوٍ واجهناه من قبل"؟

* * *
لكن هذه "الحرب على الإرهاب" الموضوعة الآن في بؤرة الصورة، تظل -على اتساع رقعتها الراهنة والمحتملة- مجرد جانب واحد من الصراعات، الظاهرة والخفية، التي تَمُوج بها الساحة العالمية. ألا يَجْدُر بنا، قبل الحديث عن الوطنية وجدواها أو عدم جدواها، أن ننظر إلى الصورة بكل أبعادها محاولين النفاذ إلى حقيقة ما يجري في العالم من حولنا وما يدور فيه من صراعات؟

ماذا تقول لنا هذه الصراعات؟ ماذا تقول لنا صورة العالم الآن؟ هل تقول إن ’الوطنية‘ قد اختفت وإن دور ’الدولة الوطنية‘ قد أصبح في ذمة التاريخ؟ أم تقول شيئاً آخر؟

* * *
الأوضاع التي يعيشها العالم الآن لم تبدأ بأحداث 11 سبتمبر 2001 كما يعتقد الكثيرون وكما يحاول الإعلام الأمريكي أن يقنعنا حين يتحدث عما قبل 11 سبتمبر وعما بعد 11 سبتمبر.

يقول الباحث الاستراتيجي الأمريكي «مايكل كلار»: "إن ما يحدث الآن في اعتقادي هو أن النخب [السياسية] الأمريكية قد خلصت إلى نتيجة مؤداها أن الحافتين الغربية والشرقية لأوراسيا [أي كتلة اليابسة التي تضم أوروبا + آسيا] مضمونتين بالفعل في أيدي أمريكا أو أنهما أقل أهمية [في الوقت الراهن]، أو الأمرين معاً. وأصبح المركز الجديد للمنافسة الجغرافية-السياسية، في نظرهم، هو جنوب وسط "أوراسيا" بما يشمل منطقة الخليج التي تمتلك ثلثي بترول العالم، وحوض بحر قزوين الذي يملك جانبا كبيرا من بقية الاحتياطيات البترولية، وبلدان آسيا الوسطى المحيطة ببحر قزوين".

ثم يضيف: "ومن المهم أن نلاحظ أن هذه العملية بدأت قبل 11 سبتمبر 2001. لقد أدى 11 سبتمبر إلى تسريع العملية ووفر لها غطاء من التأييد الشعبي [داخل الولايات المتحدة]، ولكن هذا كان، من وجهة نظر المفكرين الاستراتيجيين للولايات المتحدة، مجرد فرصة سانحة أمكن استغلالها. فالرئيس «كلينتون» هو الذي شرع في إقامة علاقات عسكرية أمريكية مع كازاخستان وأوزبكستان وجورجيا وأذربيجان، وهو الذي بنى القدرة العسكرية للولايات المتحدة للتدخل في منطقة الخليج/ بحر قزوين. والانتصار العسكري الأمريكي في العراق لم يكن انتصارا حققه «وولفوتز» و«رامسفيلد»، ذلك أن ما قام به «كلينتون» هو الذي جعل هذا الانتصار ممكناً".

إن مسرح العمليات في الحرب ضد العراق، قد جرى إعداده على مدى 12 عاما، بالحصار الاقتصادي، وبإنشاء مناطق الحظر الجوي في شمال العراق وجنوبه، وبعمليات التفتيش على الأسلحة، وبالغارات الجوية المتواصلة، وبالقواعد العسكرية الأمريكية التي أقيمت حول العراق منذ انتهاء حرب الخليج الأولى وحتى غزو العراق في مارس 2003، وعلى امتداد فترتي ولاية «كلينتون» الأولى والثانية.

لسنا هنا بصدد تحليلات أو تكهنات بل بصدد حقائق دامغة تؤكدها الوثائق الرسمية الأمريكية ذاتها:

في العام الماضي (2004) صدر عن «مركز دروس الجيش المستفادة Center for Army Lessons Learned»، التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، كتاب بعنوان "جيش الولايات المتحدة في عملية تحرير العراق The United States Army in Operation Iraqi Freedom"، فماذا تقول مقدمة الكتاب؟

تقول بالحرف الواحد: "إذا كانت الأعمال القتالية قد بدأت في مارس 2003، فإن الاستعدادات لعملية تحرير العراق قد بدأت في أول مارس 1991، أي في اليوم التالي مباشرة لانتهاء حرب الخليج الأولى".

وتضيف بالحرف الواحد: "لقد كانت القوات المسلحة عنصراً محورياً في سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق منذ انتهاء عملية عاصفة الصحراء".

وتؤكد بالحرف الواحد: "لولا ثمار الجهد العسكري على مدى 12 عاماً لأصبحت ’عملية تحرير العراق‘ مستحيلة".

وتتحدث مقدمة الكتاب عن الاستعدادات للحرب على العراق، فتشدد مرة أخرى على أهمية "الجهد الذي استمر اثني عشر عاماً لتجهيز البنية الأساسية لمسرح العمليات".

ثم يقول لنا كاتب المقدمة بصراحة جديرة بالإعجاب: "إن النجاح الذي تحقق داخل هذا المسرح للعمليات يطرح أسئلة عن كيفية قيام "القوة المشتركة Joint Force" [وهي قوات تضم جنوداً من أفرع مختلفة للقوات المسلحة الأمريكية وتعمل تحت قيادة مشتركة] بعملياتها في مسرح آخر للعمليات لم يتم إعداده بمثل هذا القدر من التروّي (less mature theater)".

يقول لنا الرجل بوضوح: ماذا سنصنع في حرب أخرى لم يتم الاستعداد لها على مدى 12 عاماً كاملةً؟

ألا يكفينا هذا كي نتوقف عن الحديث عما قبل 11 سبتمبر وما بعد 11 سبتمبر؟! ألا يكفينا هذا لكي نضع أحداث 11 سبتمبر في إطارها الصحيح، أي كمجرد فرصة سانحة للشروع في تنفيذ مخططات مُعدّة وجاهزة منذ زمن طويل؟

* * *
واقع الأمر أن الأوضاع التي يشهدها العالم الآن بدأت في التشكل مع نهاية حقبة الحرب الباردة، بانهيار ما كان يسمى ب"المعسكر الاشتراكي" وبروز الولايات المتحدة كـ"قوة عظمى" منفردة على الساحة العالمية. فكيف كانت، آنذاك، رؤية النخبة الأمريكية الحاكمة لدورها في تلك الظروف الجديدة؟

تقول «كونداليزا رايس»، في مقال نشرته في فبراير 2000 في مجلة «فورين أفيرز»، إن "الولايات المتحدة وجدت صعوبة بالغة في تحديد ’مصلحتها الوطنية‘ بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي". بل يصل الأمر بعالم الاجتماع الأمريكي «إيمانويل فالرشتاين» إلى القول بأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان "كارثة بالنسبة للولايات المتحدة، فقد حرمها من أهم سلاح سياسي كانت تستخدمه في علاقاتها بأوربا وشرقي آسيا".

أيا كان الأمر، فقد كان الشاغل الأكبر، إبان تلك الفترة، للنخبة الأمريكية الحاكمة - بجناحيها الجمهوري والديموقراطي على السواء - هو احتمال ظهور قوى عظمى منافسة، سواء من داخل الدول التي تحالفت معها أثناء الحرب الباردة أو من خارجها.

لقد ظلت ألمانيا واليابان دولتين خاضعتين تماما للقيادة السياسية والعسكرية الأمريكية على امتداد حقبة الحرب الباردة، لكنهما تطورتا إلى قوتين اقتصاديتين تنافسان الولايات المتحدة خاصة مع التدهور النسبي للقوة الاقتصادية الأمريكية ونجاح أوربا واليابان في الدفاع عن أسواقهما بل وفي غزو السوق الأمريكية ومنافسة الولايات المتحدة في عقر دارها. ولم يعد من المستبعد الآن أن تلجأ ألمانيا واليابان، بعد تحررهما من القيود التي كانت تفرضها الوحدة في مواجهة الكتلة الشرقية، إلى تأكيد دورهما على الساحة العالمية والتحول إلى قوتين عالميتين تهددان الهيمنة الأمريكية.

أما خارج المعسكر الغربي فكانت هناك روسيا والصين: روسيا التي ظلت، رغم الفوضى السياسية والاقتصادية التي كانت تعيشها حينذاك، دولة كبرى تمتلك آلاف من الرؤوس النووية وتشمل أراضيها، أو تتاخم، مناطق تختزن موارد هائلة من البترول والغاز الطبيعي. والصين التي حققت معدلات غير مسبوقة في تنميتها الاقتصادية وبرزت على الساحة الدولية بوصفها الخطر الأكبر الذي يهدد، على المدى الطويل، الهيمنة الأمريكية.

تتجلى هذه الرؤية الأمريكية بوضوح فيما كتبه «هنري كيسنجر»(1)، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في عام 1991 أي في أعقاب حرب الخليج الأولى وانهيار الاتحاد السوفيتي:
  • "في السنوات المقبلة لن تحس أوروبا أنها بحاجة إلى حماية أمريكية وسوف تسعى، بجسارة أكبر كثيراً، إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية الذاتية".

  • "الصين في طريقها إلى أن تُصبح قوة عظمى. فبمعدل تنمية يبلغ 8 في المائة سنوياً سوف يكون الناتج القومي الصيني مقارباً للناتج القومي الأمريكي مع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين".

  • "إن واضعي الخطط اليابانية الطويلة الأجل لن يظلوا إلى الأبد مُسَلِّمين بالتطابق بين المصالح الأمريكية واليابانية... فميزانية التسلح اليابانية ظلت تتصاعد إلى أن أصبحت الآن ثالث أكبر ميزانية [عسكرية] في العالم".

* * *
على صعيد الاستراتيجية العسكرية، تجلى موقف وزارة الدفاع الأمريكية في العام الأخير لإدارة «بوش» الأب (1992)، في وثيقة "توجيه التخطيط الدفاعي للأعوام 1994-1999 - Defense Planning Guidance for Fiscal Years 1994-99" التي أعدها «البنتاجون» تحت إشراف «بول وولفوتز»، وكيل وزارة الدفاع حينذاك (وأحد مهندسي الحرب الراهنة على العراق). تقول هذه الوثيقة بوضوح: "إن هدفنا الأول هو منع ظهور منافس جديد.. يُشكل خطراً من قبيل الخطر الذي كان يُشكله الاتحاد السوفيتي من قبل". وعلى ذلك تؤكد الوثيقة: "علينا [أي على الولايات المتحدة] أن نسعى إلى منع أي قوة مناوئة من التحكم في منطقة يُمكن لمواردها أن تكفي، حين تُوضع تحت سيطرةٍ مُحكمة، لتوليد قوة على الصعيد العالمي". ثم تدعو الوثيقة صراحة إلى "ردع الدول الصناعية عن تحدي قيادتنا أو حتى الطموح إلى دور إقليمي أو عالمي أكبر". وقد تسربت هذه الوثيقة إلى الصحافة الأمريكية في فبراير 1992، وأثارت غضباً عارماً لدى حُلفاء الولايات المتحدة مما اضطر الرئيس بوش الأب إلى التهوين من شأنها والتنصل منها، وجرى بعد ذلك تعديلها بما يجعلها أقل استفزازاً للحلفاء.(2)

لا يفوتنا أن نشير في هذا السياق أيضا إلى مقال "صدام الحضارات" الشهير، الذي نشره «صامويل هنتنجتون» في مجلة «فورين أفيرز» في صيف 1993. يتنبأ «هنتنجتون» في هذا المقال بأن "الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط ميادين القتال في المستقبل"، ويعترف صراحة بأن:" عالماً تصطدم فيه الحضارات، لابد أن يكون عالماً مزدوج المعايير: فالناس تستخدم معياراً في التعامل مع البلدان التي تربطها بها صلة القربى [أي المنتمية لنفس الحضارة] ومعياراً آخر في التعامل مع الآخرين". وبعد تحليل طويل للأوضاع العالمية من منظور ’صدام الحضارات‘ ينتهي «هنتنجتون» إلى القول بأن البلدان "التي لا تريد، أو لا تستطيع، الانضمام إلى الغرب لأسباب تتعلق بالثقافة والقوة، تعمد إلى التنافس مع الغرب بتطوير قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية. وهي تقوم بذلك من خلال تعزيز تنميتها الداخلية والتعاون مع بلدان أخرى غير غربية. وأبرز أشكال هذا التعاون هو الرابطة الكونفوشيوسية–الإسلامية التي ظهرت لتحدي المصالح والقيم والقوة الغربية". والنتيجة: "إن بؤرة مركزية للصراعات في المستقبل القريب ستكون بين الغرب وعديد من الدول الإسلامية–الكونفوشيوسية".

أما التوصيات التي يخلص إليها «هنتنجتون» لمواجهة هذه "الحضارات المارقة" فهي: "الحد من توسع القوة العسكرية للدول الكونفوشيوسية والإسلامية، والاعتدال في خفض القدرات العسكرية الغربية، والمحافظة على التفوق العسكري في شرق وجنوب غربي آسيا [أي تحديدا في مواجهة الصين (شرق آسيا) وفي منطقة الخليج (جنوب غربي آسيا)]، واستغلال الخلافات والصراعات بين الدول الكونفوشيوسية والإسلامية، ودعم المجموعات المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية في الحضارات الأخرى".

مربط الفرس في كلام «هنتنجتون» - ودعك الآن من كل اللغو ’الحنجوري‘ عن الحضارات وصراعها والخطوط الفاصلة بينها فهذا مجرد غطاء إيديولوجي لتبرير ما يتوقعه من صراعات مُقْبِلة - هو أن العدو الآن أصبح: البلدان العربية والإسلامية - أرض الذهب الأسود ومحور الصراع العالمي من أجل الهيمنة؛ والصين - القوة العظمى الجديدة الصاعدة.

ولا يتسع المجال هنا للإشارة إلى عشرات الكتب والمقالات الأخرى التي نشرها، إبان تلك الفترة، المفكرون الإستراتيجيون للمؤسسة الأمريكية الحاكمة في محاولة لصياغة رؤية جديدة للدور الأمريكي في عصر ’القطب العالمي الواحد‘. يكفيني أن أقول باختصار أن نقطة الخلاف الرئيسية بين هؤلاء كانت تنحصر في الإجابة على سؤال واحد: هل تستمر أمريكا في العمل المتعدد الأطراف (multilateralism)، أي بالإشتراك مع أطراف أخرى كما حدث في حرب الخليج الأولى مثلاً؟ أم أن الوقت قد حان للإنتقال إلى العمل المنفرد (unilateralism) دون التقيد بمطالب وشروط أطراف أخرى ودون انتظار لاستصدار قرارات من مجلس الأمن؟

* * *
مع منتصف التسعينات، كان ثمة تيار قوي يتشكل في صفوف اليمين الأمريكي ويكتسب مزيداً من النفوذ داخل «البنتاجون» واحتكارات السلاح والبترول (ما يُسمى "بالمجمع العسكري الصناعي")، ويستعد لخوض معركة فاصلة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2000..

وهكذا جرى في عام 1997، أي أثناء ولاية «كلينتون» الثانية، تأسيس مركز «مشروع القرن الأمريكي الجديد Project for the new American Century» وهو مركز للدراسات تسيطر عليه مجموعة ممن اصطلح على تسميتهم الآن بالمحافظين الجدد، وتربطه علاقات وثيقة بمؤسسة الدفاع والمخابرات الأمريكية وبالحزب الجمهوري الأمريكي وبمجلس العلاقات الخارجية الذي يسهم بدور كبير في صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وكان من بين الأعضاء المؤسسين لهذا المركز «ديك تشيني»، نائب الرئيس الحالي، و«دونالد رمسفيلد» وزير الدفاع، و«ريتشارد بيرل» رئيس مجلس السياسة الدفاعية، و«بول وولفوتز» النائب السابق لوزير الدفاع (ورئيس البنك الدولي حالياً)، و«جون بولتون» المندوب الأمريكي الدائم في الأمم المتحدة حالياً.

وكان «دونالد رمسفيلد» و«بول وولفوتز» من بين الموقعين على رسالة وجهها المركز إلى الرئيس «كلينتون» في مايو 1998، وقد دعت هذه الرسالة إلى إنشاء حكومة انتقالية حرة في المناطق الشمالية والجنوبية من العراق، وأكدت ضرورة تجهيز القوات المسلحة الأمريكية لدعم المعارضة العراقية وأن "تكون مستعدة للعمل على إزاحة «صدام» من السلطة".

قبل ذلك ببضعة شهور، نشر اثنان من المشاركين في «مشروع القرن الأمريكي الجديد» هما «وليم كرستول» و«روبرت كاجان»، مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز» في 30 يناير 1998 تحت عنوان "الغارات الجوية على العراق لا تكفي". وقد جاء في المقال: "«صدام حسين» يجب أن يذهب. إن هذه الضرورة المحتومة قد تبدو بسيطة جداً في نظر بعض الخبراء ومخيفة جداً لإدارة «كلينتون». ولكن إذا كانت الولايات المتحدة قد التزمت... بأن تكفل عدم عودة القائد العراقي إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، فإن الطريق الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو إزاحة «صدام حسين» ونظام حُكمه من السلطة. وأي سياسة تقصر عن تحقيق ذلك مقضيّ عليها بالفشل". ثم يؤكد المقال: "نحن قادرون على انجاز هذه المهمة. فجيش «صدام» [أصبح الآن] أضعف بكثير مما كان عليه قبل حرب الخليج. وشن حملة عسكرية تتسم بالكفاءة، مقترناً بإستراتيجية سياسية لدعم قوى المعارضة الواسعة في العراق، كفيل بأن يؤدي إلى الإطاحة بنظامه بأسرع مما يتصور الكثيرون".

وفي سبتمبر 2000، وقُبيل الانتخابات الرئاسية ووصول إدارة «بوش» الابن إلى الحُكم، أعد مركز أبحاث «مشروع القرن الأمريكي الجديد» وثيقة بعنوان "إعادة بناء الدفاعات الأمريكية Rebuilding America’s Defenses"، جرى إعدادها بناءً على طلب «ديك تشيني» (نائب الرئيس الآن) و«دونالد رمسفيلد» (وزير الدفاع) و«بول وولفويتز» (النائب السابق لـ «رامسفيلد» في وزارة الدفاع) و«لويس ليبي» (مدير مكتب تشيني) و«جيب بوش» (الأخ الأصغر للرئيس بوش). وقد تسربت هذه الوثيقة بدورها إلى الصحافة ونشرتها صحيفة «صنداي هيرالد» في 15 سبتمبر 2002.

تقول الوثيقة: "إن الولايات المتحدة لا تواجه في الوقت الحالي منافسين عالميين. ولابد أن تهدف الإستراتيجية الرئيسية لأمريكا إلى المحافظة على هذا المركز المتفوق وإلى امتداده لأبعد مدى ممكن في المستقبل. على أن هناك دولاً مؤهلة لاكتساب القوة لا يُرضيها الوضع الراهن وتتطلع إلى تغييره إذا استطاعت (...) وقد ردعها عن ذلك حتى الآن القوة العسكرية الأمريكية ووجودها العالمي. ولكن مع تدهور تلك القوة، تدهوراً نسبياً ومطلقاً، فإن الظروف المواتية الناجمة عنها سوف تتقوض لا محالة".

وتبين هذه الوثيقة بوضوح أن الطاقم الأساسي الذي سيطر على المناصب الحساسة في ظل إدارة «بوش» كان يخطط منذ البداية لفرض سيطرة عسكرية دائمة على منطقة الخليج. تقول الوثيقة دون لبس: "لقد سعت الولايات المتحدة طيلة عقود إلى القيام بدور أكثر دواماً في الأمن الإقليمي للخليج. وإذا كان النزاع الذي لم يُحل بعد مع العراق يوفّر المبرر المباشر فإن ضرورة وجود قوة عسكرية ضخمة في الخليج [هي ضرورة] تتجاوز حدود قضية نظام صدام حسين".

واضح إذن أن المبدأ الاستراتيجي الأساسي الموجه للسياسة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة هو منع ظهور أي قوة عظمى منافسة تُزاحم الهيمنة الأمريكية على العالم، وأن الولايات المتحدة سوف تستخدم أية وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية، للحيلولة دون حدوث ذلك. وقد تأكد هذا المبدأ بوضوح لا لبس فيه في "إستراتيجية الأمن الوطني للولايات المتحدة الأمريكية National Security Strategy of the United States of America" الصادرة عن البيت الأبيض في سبتمبر 2002.

تقول هذه الوثيقة: "إن الولايات المتحدة تملك قوة ونفوذاً عالميين غير مسبوقين ولا نظير لهما (...) وستكون قواتنا العسكرية قوية بما يكفي لإثناء أي خصوم محتملين عن السعي إلى بناء قوة عسكرية بأمل التفوق على قوة الولايات المتحدة أو الوصول إلى مستواها".

وتؤكد الإستراتيجية دون لبس: "بينما ستظل الولايات المتحدة تسعى إلى كسب تأييد المجتمع الدولي، فإننا لن نتردد في العمل منفردين، إذا اقتضى الأمر، لممارسة حقنا في الدفاع عن النفس باللجوء إلى العمل العسكري الاستباقي (acting pre-emptively)".

* * *
هذا هو الإطار الحقيقي الذي يندرج فيه القتال الدائر الآن باسم "الحرب على الإرهاب". فالإستراتيجية الأمريكية واضحة: من يُسيطر على بترول الخليج يتحكّم في الاقتصاد العالمي، وتكون له بالتالي اليد العُليا على جميع القوى المنافسة. فالبترول ليس مصدراً للوقود فحسب بل هو مصدر للقوة بامتياز، إن لم يكن أهم مصادر القوة الاقتصادية والعسكرية، لاسيما ونحن نقترب - كما يقول الخبراء - من نهاية عصر البترول الرخيص والإنتاج البترولي الغزير، ومع الصراع الضاري الدائر الآن حول مصادر البترول والغاز الطبيعي في العالم.

وقد كان منطقياً أن تُدرك دول كُبرى، مثل فرنسا وألمانيا وروسيا والصين، معنى هذه الإستراتيجية الجديدة وأن تُقدِّر عواقبها وخطرها على مصالحها، ومن هنا كانت معارضتها للغزو الأمريكي للعراق. فقد كان المقصود من الحرب على العراق، كما يقول الباحث الأمريكي «مايكل كلار» هو: "تمكين الولايات المتحدة الأمريكية من الحصول على وضع مُسيطر في منطقة الخليج الفارسي، وأن تكون مُنطلقاً لمزيد من الغزوات وترسيخ القوة في المنطقة. لقد كانت [هذه الحرب] موجهة ضد الصين وروسيا وأوروبا بقدر ما كانت موجهة، أو ربما أكثر مما كانت موجهة، ضد سوريا وإيران".

"ولا عجب إذن"، كما يقول باحث آخر، "أن تكون خريطة ’الحرب على الإرهاب‘ مُطابقة بمثل هذه الدقة المذهلة لجغرافية حقول البترول وخطوط الأنابيب المُزمع إقامتها".

* * *
يعني خلاص، ما عدش فيه دلوقتي كلام عن ’تنافس سلمي‘ أو ’تعايش سلمي‘ ولا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار أنظمتها الاجتماعية والسياسية. الكلام دلوقتي أصبح، بدون لف ولا دوران، عن القوة المسلحة كسبيل لحسم الصراعات في العالم بدون أي التزام بالرجوع لشرعية دولية ولا دياولو. الكلام دلوقتي أصبح عن ’تغيير الخرائط‘ وعن ’الحرب الاستباقية‘ و’الفوضى/التدمير الخلاق‘.

الكلام اللي بتقوله أمريكا دلوقتي واضح وصريح: لو أي حد حاول يتفوق عليا، أو ينازعني في إنفرادي بالقمة، بصراحة كده.. أنا.. حأقتله! لو أي دولة اتبعت سياسة مش عاجباني تبقى ’دولة مارقة‘ ومن حقي أشيل حكومتها بقوة السلاح!

لأول مرة في التاريخ تظهر قوة عُظمى تُريد أن تفرض سيطرتها على العالم كله.. دي ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ العالمي كله. والولايات المتحدة، بلا شك، قوة عسكرية رهيبة.. ميزانيتها العسكرية تُعادل تقريباً مجموع الميزانيات العسكرية في بقية دول العالم، وترسانتها الحربية فيها كل ما هو ساحق ماحق.. كل ما يخطر وما لا يخطر على البال، وأجهزة إعلامها جبارة، تعمل ليل نهار لتغسل عقول البشر في كل مكان، وشبكاتها وأجهزتها "تسمع دبيب النملة لما تفارق مكانها"، وأقمار تجسسها - اللهم احفظنا - تقدر ترصد كما يُقال "حتى ماركة الفانلة اللي لابسها واحد نايم في بيته ومتغطي بالبطانية واللحاف"!

...............
لكن هل استسلمت دول العالم لمخطط الهيمنة الأمريكي؟
هل أصيبت الشعوب بـ "الصدمة والرعب" ورفعت "الراية البيضا"؟
هل انحسرت الصراعات وانحصرت الآن في الحرب الدائرة بين ’القوة الأعظم‘ و’الإسلام الراديكالي‘؟


والحديث متصــــل ..